في واحدة من الروايات الجميلة وذات الدلالات الفكرية والاجتماعية العميقة التي كتبها الروائي الياباني جونيشيرو تانيزاكي في العام 1931 بعنوان «حكاية السيد موزاشي السرية»، تطالعنا حكاية هوس متواكب مع نوع من الاستجابة لتوق محدد: فبطل الرواية يشاهد خلال حصار ومعركة عسكرية تدور أحداثهما في القرن السادس عشر، حين كانت الحروب مستشرية بين كبار الإقطاعيين، يشاهد وهو بعد في سني طفولته، سيدات حسناوات، يمضين ساعات يومهن في تزيين وتصنيف رؤوس جنود الأعداء المقطوعة. ويتوقف الطفل في شكل خاص عند رأس في منتهى الجمال يطلق عليه اسم «رأس امرأة» بمعنى أنه رأس قطع منه الأنف خلال المعركة. هذا الطفل سوف يظل طوال حياته مأخوذاً بمشهد الرؤوس المقطوعة والمبرّجة، مشهد سيحاول في الوقت نفسه أن يستعيده على الدوام، وأن ينساه على الدوام. > ونحن إذ نقرأ اليوم روايات تانيزاكي الأساسية، في ضوء ذلك المشهد سيمكننا أن نفهم كل ضروب الضلال التي تلوح فيها، وسندرك أن هذين الضلال والانحراف اللذين ارتبطا على الدوام باسم تانيزاكي وبأدبه، لم يكونا مجّانيين، بل كانا أشبه بمجاز حاول الكاتب من خلاله أن يرسم صورة ذاتية جداً للمجتمع الياباني وضروب الفساد التي كانت تتحكم به خلال النصف الأول من القرن العشرين. فبالنسبة الى تانيزاكي لم يكن التهذيب السائد في العلاقات الاجتماعية اليابانية سوى قناع خادع يخفي وراءه، وفي الأعماق، شتى الشرور والمركبات النفسية التي تتحكم في ذلك المجتمع المغلق. والحقيقة أن هناك تقابلاً عكسياً بين القناع الذي غلّف على الدوام أدب تانيزاكي، والقناع الذي غلّف الحياة الحقيقية للمجتمع الياباني. فالنقاد ونخبة القراء الذين قرأوا أدب تانيزاكي في اليابان، أو في بلدان عديدة ترجم أدب تانيزاكي فيها منذ نهاية النصف الأول من القرن الفائت، احتاجوا للانتظار سنوات طويلة قبل أن يدركوا أن ضروب الانحراف التي تطبع روايات هذا الكاتب ليست سوى قناع خادع بدوره، وأن في خلفية ذلك الأدب الإباحي والجنسي المكشوف تكمن نزعة أخلاقية، ورغبة في التمرد ضد نفاق المجتمع وأكاذيبه. بل يمكن أن نقول أن تانيزاكي ظل حتى بعد رحيله عام 1965، يعتبر كاتباً إباحياً وأن النقد الجدي لم يبدأ بالالتفات اليه إلا لاحقاً، ليدرس أدبه في أعماقه بعيداً عن مظاهره السطحية. وعند ذلك بدأ النقاد والباحثون يجمعون على أن تاتنيزاكي هو الى جانب ميشيما وكاواباتا، أكبر كاتب عرفته اليابان في القرن العشرين، وأنه الوريث الشرعي لذلك الأدب الياباني الذي لم تكن أبعاده الإباحية سوى أقنعة تخفي وراءها تأملات فلسفية واجتماعية عميقة. > والحقيقة أن أولئك القراء ما كان من شأنهم أن ينتظروا كل تلك السنوات التي انتظروها كي يدركوا حقاً تلك الأفكار والمفاهيم والرؤى الشديدة العمق التي تقف خلف أعمال تانيزاكي الأدبية. فهو إذا كان قد سجل ما يمكن اعتباره مرحلته الإبداعية الكبرى، على الأقل مروراً بالرواية التي أشرنا إليها أوّل هذا الكلام، وكان بعد في الثالثة والأربعين من عمره، فإنه ما لبث، بعد ذلك بعامين فقط، أن نشر كتاباً له، لم يكن روائياً هذه المرة، بل كتاباً فكرياً وجد أن من الضروري له أن يكتبه، على الأقل كي يفسّر عالمه الإبداعي الذي كان يعرف جيداً انه في حاجة الى تفسير كي لا يساء فهمه. لكن المشكلة هي أن القراء، المحليين ثم المنتشرين في أنحاء العالم يقرأونه عبر الترجمات التي راحت تتكاثر، قرأوا أدبه كما يحلو لهم، لكنهم لم يلتفتوا كثيراً الى كتاباته الفكرية. وكان عنوان النص الذي نتحدث عنه هنا «في مديح الظل» الذي هو عبارة عن نصّ قصير لم يزد عدد صفحاته في ترجمته الإنكليزية عن سبعين صفحة ونيّف. ولقد اعتبر الكتاب في العالم الأنغلو - ساكسوني، كتاباً فلسفياً ويتجاوز، من بعيد ما قيل أنه رغبة الكاتب في تفسير أدبه. > كان الكتاب بالأحرى نوعاً من التفسير الفلسفي العميق للفوارق الذهنية بين الشرق والغرب أساساً. وموضوعه ينطبق ليس فقط على الأدب بل على السمات الحياتية في شكل عام. وكان تانيزاكي قد نشر سلسلة «التعليقات» التي يتألف منها «في مديح الظل»، قبل جمعها في كتاب. وعدد التعليقات ستة عشر كان همّها الأساس - وتحديداً في ذلك الزمن الذي كانت فيه اليابان قد بدأت تخرج من منغلقاتها لتنفتح فكرياً وثقافياً، ولكن سياسياً أيضاً، على العالم -، استعراض التقاليد الجمالية اليابانية التي تقوم في رأي الكاتب على مفهوم الظل. ومن الواضح هنا أن المقارنة التي يقيمها تانيزاكي بين العتمة المظلّلة والنور الساطع، إنما هي مقارنة بين نظرتين وعالمين: نظرة وعالم اليابان من ناحية، ونظرة وعالم الغرب من ناحية أخرى. فالغرب في رأي الكاتب يمضي وقته كله وهو يبحث عن أعلى درجات النور لأنه بالنسبة اليه مرادف للوضوح والتقدّم، فيما الشرق عموماً واليابان يجعلان من الظل والضوء الخفيف جزءاً من تقاليد الحياة وبالتالي جزءاً من عالم الإبداع نفسه ضمن إطار ما يسمّيه اليابانيون تقليد «السابي»، دونما اهتمام بما إذا كان يعني تقدماً أو تخلفاً. وانطلاقاً من هذا المفهوم يستعرض تانيزاكي بأسلوبه الممتع والدقيق، علاقة التظليل بالهندسة المعمارية والفنون كافة ولا سيما المسرح منها، وصولاً الى صناعة الحرف التقليدية وصناعة الورق، ثم يضيف الحديث عن الفنون التي طرأت على اليابان آتية إليها من العوالم الخارجية «لتندمج بسرعة في التقاليد اليابانية بأكثر مما تُحدث فيها أية تغييرات جذرية في المفاهيم والتصورات»، ولعل أطرف صفحات الكتاب تلك التي يكرسها تانيزاكي لوصف طبق معين من أكلة «السوشي» اليابانية التقليدية التي اشتهرت في العالم أجمعه، رابطاً إياه بمفهوم «السابي» نفسه. وفي السياق ذاته، لا يفوته كذلك الحديث عن الظلال في المعابد وتأثيرها على الملابس، بحيث يستكمل كتابه دورته ليشمل الثقافة اليابانية في مجملها. > نشر تانيزاكي روايته الأولى في العام 1910، وكان له من العمر 24 سنة (هو المولود في طوكيو في العام 1886). كانت قصة طويلة عنوانها «وشم» بدت منطبعة بتيار الأدب المكشوف والمتأنق جمالياً، الذي كان سائداً في بريطانيا كما في فرنسا عند نهاية القرن الفائت. واصل تانيزاكي ذلك النوع من الكتابة حتى العام 1923 حين جاء زلزال طوكيو المأسوي ليقلب حياته وأفكاره رأساً على عقب. فهو اضطر للتوجه الى كيوتو ليعيش هناك بعد أن دمر الزلزال منزله في طوكيو. ولما كانت كيوتو مدينة التقاليد والأصالة مقابل حداثة طوكيو، كان من الطبيعي لتانيزاكي، الذي ستدور أحداث رواياته منذ ذلك الحين وصاعداً في كيوتو، أن يتجه للمزج بين المعاصرة والأصالة، وأن يكتشف أن الأدب المكشوف الذي كان يعتقده ابتكاراً أوروبياً، انما يجد معادله في الأدب الياباني العريق. > وهكذا كتب ونشر في 1925 روايته «اليابانية» الكبيرة الأولى، «غراميات أحمق» التي تصور لنا وَلَهَ مستخدم وضيع وأحمق بفاتنة تعيش حياتها على النمط الغربي، ما يجعله يكرس كل حياته لها ولنزواتها. وكان من الواضح هنا أن تانيزاكي في هذه الرواية، التي سبقت «لوليتا» نابوكوف بسنوات طويلة انما يحاول أن يتجاوز الحبكة العاطفية ليرسم خلفية اجتماعية وثقافية تعيش تطورها الأخرق. وهو نفس ما سيواصله في روايته التالية «سفاستيكا» حيث يرسم لنا العلاقة المعقدة بين أربع شخصيات ضائعة. وفي الرواية التالية «طعم اللبّان» يرسم لنا تانيزاكي صورة أخرى للمجتمع الياباني من خلال علاقة زوجية، حيث يريد الزوج أن يؤجل لحظة القطيعة مع زوجته رغم علمه بحتميتها. بيد أن قراء تانيزاكي كان عليهم أن ينتظروا العام 1956 حتى يقرأوا واحدة من أجمل رواياته «المفتاح» التي يدور موضوعها حول الغيرة والعلاقات الزوجية، وهو الموضوع نفسه الذي عالجه في واحدة من آخر رواياته «يوميات عجوز مجنون» (1962). > ونذكر هنا أن عدداً كبيراً من روايات وقصص تانيزاكي قد حول الى أفلام، في اليابان وخارجها، وأن له إضافة الى الروايات التي ذكرنا، أعمالاً مهمة أخرى ومن بينها «أربع شقيقات» (1943 - 1948) التي كتبها تحت وطأة الحرب وينظر اليها كثير من الدارسين باعتبارها من أهم أعماله.