كرست إمارة موناكو شهور هذا الصيف لعرض أشهر فنان بريطاني، فرنسيس بيكون، فلوحاته تباع بأرقام فلكية، وهو الأغلى ثمناً ضمن خمسة في تاريخ الفن عموماً. يملك المعرض كل أسباب النجاح، فاللوحات الـ60 (التي وفدت من مجموعة «مؤسسة بيكون») أغلبها بقياس عملاق وتعرض لأول مرة على الجمهور في صالات «غريمالدي فوروم» أرحب موقع للعرض في موناكو، (وذلك ابتداء من الثاني من تموز- يوليو مستمراً حتى الرابع من أيلول- سبتمبر). تضاف عشر لوحات اختبارية للمقارنة، لأن أحد أبرز أسباب نجاح المعرض يتمثل في موضوعه الطموح والجريء الذي يرصد بصمات الثقافة التشكيلية الفرنسية على خصائصه التعبيرية وحساسيته الفراغية واللونية والتراجيدية العامة. نكتشف أن إقاماته المتقطعة في فرنسا لا تقل عن إقامته في لندن، هو ما يفسر تأقلمه ومعرفته باللغة الفرنسية. وصداقاته الواسعة مع الفنانين الفرنسيين بأضعاف نظائرهم الإنكليز. تتمسك مدينة موناكو بطول إقامة بيكون فيها: أقام فترة استمرت من عام 1946 وحتى نهاية 1950، قبل أن يستقر عشر سنوات في الكوت دازور. هو ما يفسر العناية الكبيرة ببانورامية المعرض. بخاصة بعد انقطاعها عن عروضه 30 عاماً، واستثمار واحتكار إحياء ذكرى ربع قرن على وفاته. هو معرض بانورامي شمولي استعادي يتضمن وثائق فوتوغرافية وأفلام فيديو ثرية تغطي كامل مسيرته الفنية ما بين ولادته في دبلن عام 1909، ووفاته في مدريد عام 1992. بما أنه معرض مقارن فإن مادته المخبرية استخدمت عشر لوحات، إضافة للمقارنة البصرية المباشرة. بخاصة مع تعبيرية بابلو بيكاسو، خُصص جناح مستقل لخمسين لوحة من بيكاسو مختارة بعناية، ثم مع لوحتين عملاقتين من ثلاثيات البرتو جياكوميتي، ناهيك ببعض المنحوتات الجصية العارية لرودان ثم ذبائح حاييم سوتين وتكوينات ماتيس اللونية الصاخبة وكذلك تولوز لوتريك، ثم ليجيه ولورسا وميشو ومانيه مع الاستعارات السوريالية الفرنسية. تصل دعوى تأثره إلى نسبة شخصه المرسوم إلى ملامح المركيز دوساد. مع إغفال أن بيكون بالنتــيجــة ساهم فــي تأسيس تـيـــار فرنسي أساسي هو التشخيـصية المحدثة. لا شك في أن التأثير الأعمق المستديم كان ابتداء من اكتشافه تجربة بابلو بيكاسو عام 1927، بداية تردده على فرنسا لاستكمال تدربه على لغتها، واكتشافه في محترفاته المتوسطية في الجنوب حيث كان يتردد كل عام، أما وثائق المعرض فتثبت تعبيره الصريح عن شدة إعجابه بالقوة التدميرية لدى بيكاسو في الأشكال التراجيدية مثل لوحة المرأة الباكية وسواها. تتدفق جاذبية تصوير بيكون التي لا تقاوم من همجية التعبير والأسلوب، والعمارة البسكولوجية حبيسة الأنا الكافكاوية العزلوية: فناءات مهندسة فارغة، مترامية الأطراف، تطوق بسجنها وأصفادها قزميّة شخوصه التي تشبهه: أعضاء مبتورة بسادية وعنف. منسلخة عن بقية الأجزاء كما يجرى خلال لحظة النحر أو الصفعة المارقة مثل السهم. كثيراً ما يستخدم الذبائح الحيوانية ترسيخاً لتراجيدية وعبثية القدرية المستكينة المشتركة مع الأضحيات اليومية في المسالخ الهمجية. وكثيراً ما يستخدم الوقائع الوظيفية الاستخدامية أو الاستهلاكية اليومية المكرورة بلا وعي، بخاصة: التواليت والفراش والكرسي (التابوريه) المتطاول الذي يلف في متاهة بقية العناصر مع الجسد المترهل والمفتول عمودياً، كذلك الدراجة وسواها من نوابض حلزونية منفلتة من عقالها، ضمن كابوس من الضجيج والاختناق الروحي. لا شك في أن تجربة بيكاسو الرائدة في تدمير الشكل قادت بيكون إلى مساحة تجريبية أشد رحابة وخصوبة وثراء في الالتواء والعوج والنسب المعتوهة بلطخات فرشاة عاصفة تحمل أثقالها من العنف الأبيض، لتعدم ملامح الوجه أو الجسد أو تبتر الأعضاء بتعددية نحتية متضادة في نسيجها وتنوع سماكة عجائنها. كثيراً ما يصور الاتصال البشري المريب أو الفاحش إشارة إلى استحالته، وترسيخاً لتجربة العزلة الانفرادية المطرودة من المجتمع الحديث. لعب «السينوغرافي» دوراً مبالغاً في تكريس جانبه التعبيري المظلم، وذلك بدهن الأرضيات بالصباغة السوداء، هي التي تلتحم مع رسم الظلال المبالغة في لوحاته اذ تتشخصن منحنياتها القائمة لتكمل روح الكابوس العام كما هي لدى الفنان مونخ. كثيراً ما يراجع شواطئ بيكاسو العدميّة المزدانة بالمضخّات والأنابيب والمقالع الكابوسية، ناهيك بالإشارات الملغزة وعلى رأسها الأسهم الحمراء حبيسة السجن السيزيفي بأبوابها الموصدة. ووجهه الداخلي المشمئز، والمثير للاشمئزاز، هو ما ينطبق على بقية استعاراته البيكاسويّة من الكوريدا ومذابح مصارعة الثيران، أو حين يظهر أمامنا مهرجو السيرك الذين يمشون على حبال قلقة. يعانق تصوير بيكون كل ما هو خطر ومقلق ويوحي بمطلق الانغلاق والانطواء على الذات كإنذار بنهاية العالم.