بعد مجزرة نيس في جنوب فرنسا، طلع على شاشة التلفزيون رجلان مسلمان يتحادثان في سوبرماركت، فيقول الأول للثاني: «صرت أخجل وأخاف من نظرات الناس اليّ وكأنني أنا الذي ارتكب المجزرة، وأرى في عيون الناس حولي نظرات تضعني أدنى من مستوى البشر، فلنذهب الى مكان ليس فيه من ينظر الينا هذه النظرات». فالتفت اليه الثاني وقال له: «أنا أسير معك ولا أرى حولنا ناساً ولا نظرات، فمن أين تأتي بهذه النظرات والإدانات؟». فقال الأول: «صحيح ليس هناك ناس حولنا، ولا نظرات، لكن هذا ما أشعر به في أعماق قلبي وضميري ولا أستطيع ان أتخلص منه». وعي المسلمين المتنورين للحال التي أوصلهم اليها اسلام الجهاديين نادر، وهو لو انتشر لأنقذ المسلمين في بلاد الإسلام وفي أوروبا وأميركا من أخطار تحدق بهم. فبعد مجزرة نيس هناك خبر أخفته السلطات الفرنسية وهو محاولة بعض الفرنسيين المتطرفين الناقمين الاعتداء على أحياء إسلامية في جنوب فرنسا والانتقام من المسلمين بمجزرة كتلك التي ارتكبها سائق الشاحنة الذي دهس الأطفال والنساء والأبرياء الذين كانوا يتفرجون على الألعاب النارية، لكن السلطات الفرنسية عتّمت على الخبر وقمعت المحاولة بيد من حديد. فإلى أيـــن؟ وما سبـــب انتشار هذه الروح المتوحشة باسم الدين بين المسلمين؟ دُهِس 84 طفلاً وامرأة وبريء باسم الدين؟ كيف وصلنا الى هذا الإنحدار حتى صار هناك ألوف مؤلفة يبحثون عن الخروج من جحيم الواقع الإسلامي الذي يعيشون فيه بتفجير أنفسهم للصعود الى الحوريات والأنهار والنعيم؟! اعتلال النفس من الشعور بالاضطهاد الى كره الذات آفة تفتك بالكثيرين. فالمشهد يبدو مظلماً، لأن العالم الإسلامي هو في منطقة من الكرة الأرضية تتضاءل فيها اليوم ظروف النمو والتقدم الحضاري والخروج من الظلم والظلام. لقد مرّ زمان غير بعيد نسي المسلمون فيه التطلع الى المستقبل بشيء من التفاؤل، فقد دخلت دول إسلامية في القرن التاسع عشر عصر النهضة والحداثة لكنها توقفت ثم بدأت التراجع. «كان يا ما كان». المجتمع المصري، على سبيل المثال، تمكن في الماضي من أن يحتل المرتبة الثالثة عالمياً في الإنتاج السينمائي فيما كان الرسامون والشعراء والأدباء والمفكرون والموسيقيون والكُتّاب المسرحيون والروائيون في بيروت والقاهرة وبغداد والدار البيضاء يساهمون في صَوغ ثقافة عربية حيّة متجددة، الى أن كان الإنحدار والغثيان الراهن الذي هو حالة فكرية وايديولوجية أكثر منها مادية، وهذا الذي أدى الى اعتقاد المسلمين أن لا مستقبل امامهم، ليجري اسقاط حضارة حية من أجل الإستسلام لعقيدة الشقاء والموت. ان الشقاء الإسلامي دلالاته نسبة الأمية والهوة المخيفة بين الغنى والفقر، الغنى الفاحش والفقر المدقع، ما ولّد الشعور بأن المستقبل مسدود وصارت المعضلة في نظرة المسلم الى الآخر ونظرة الآخر الى المسلم، لكن المشكلة الكبرى كانت في نظرة المسلم الى نفسه، وهنا قلب المشكلة. فالإحساس الهائل بالعجز الذي يتولد عنه الشقاء يتغذى من البكاء على الأطلال، وصار العجز رمز الشقاء، العجز من شعور معظــم المسلمين بأنهم لم يعودوا سوى كمـية مُهمَلَة على رقعة الشطرنج الكونية. ودعمت هذا الشعور خسارة حرب فلسطين ثم المأساة الكبرى في هزيمة 1967 التي جاءت وكأنها تدين عجز المسلمين باعتباره عجزاً وراثياً أو حضارياً. ثم كان نصـف انتصار ونصف هزيمة 1973 لتصبح إسرائيل بعدها تصول وتجول وحدها في الشرق، حتى وصل الأمر الى حصار عاصمة عربية هي بيروت عام 1982، بينما العرب والمسلمون أعجز من ان يفعلوا شيئاً. هذا العجز هو الذي ولّد جحيماً مبرراً لتحليل تشريع عنف دموي شامل ليجرب أن يحوّل الضحية دينياً الى كسب للجنة، وهذا المنحى الديني هو في حد ذاته من علامات الشقاء الإسلامي. وواكبت هذا الإنجراف الأنظمة السياسية الديكتاتورية التي استقرت في العالم الإسلامي بعد خروج الغرب منه، فأصبح الحكام الاستقلاليون، الذين ربضوا، تحت شعار التحرير، على كرسي السلطة عشرات السنين، عقبة امام التحديث والإصلاحات، وصارت الأنظمة السياسية مُشَخْصَنة، تتغذى من انتعاش النزعة الدينية المتطرفة وتواطؤ السلطة معها. ومن السودان الذي انقسم الى ثلاثة سودانات، الى اليمن الذي كان خارج التاريخ وكان سعيداً، فصار تعيساً، الى سورية التي حكمتها ثقافة الرعب والإجرام، وكذلك فساد جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، الى القبضة البوليسية الصينية، ثم الى لبنان الذي حرروا فلسطين من مدنه فخسر العالم العربي حين فقد لبنان مختبرات الحداثة وجزيرة حرية الرأي، إلى القذافي الذي حبس شعبه في قفص طوال نصف قرن ولما خرج من القفص اصطدم بعضه ببعض ووجد انه فارغ من انسانيته ونموه الفكري والثقافي. وحلّ محل عمر بن الخطاب وعلي بن ابي طالب وعثمان بن عفان وأبو بكر الصديق، اسامة بن لادن، وخليفة «داعش» أبو بكر البغدادي. ولئن كان صعود العنف نتيجة الإفلاس وغياب الحرية والتنمية وشعور العجز والشقاء في اللاوعي، الا انه لا يمكن اعتباره حلاً لمأزق الذل في المجتمعات الاسلامية بل صار معضلة خطيرة على الاسلام ذاته. الخطأ الكبير كان في الاعتقاد ان بإمكان الاسلام السياسي «الجهادي» ان يوفر فرصة للخروج من الشقاء الاسلامي، لكن يتبيّن انه هو بالذات سبب هذا الشقاء.