لندن: أمير طاهري بينما كانت الأوضاع تتحول بشكل متسارع في إيران عام 1979 إلى حركة شعبية لتغيير النظام، لم يتمكن المشاركون في تلك الأحداث من الاتفاق على كلمة تصف ما حدث. استخدم أبناء الطبقة الوسطى المصدقية، الذين كانوا واجهة الحركة، كلمة «النهضة» التي كانت في الأصل اسم منظمتهم. أما الملالي الذين كانوا لا يزالون يعتريهم القلق بألا يواجهوا مخاطر شخصية فاستخدموا كلمة «قيام» لأنها تستدعي بالنسبة لهم ذكرى كربلاء بوفاة الحسين عام 680م. أما العشرات من المجموعات اليسارية، التي جرى تدريب وتسليح البعض منها في كوبا والمخيمات الفلسطينية، ففضلوا كلمة «شوريش خلق» أو (تمرد الشعب). ثم خرج الشاه، الذي كان قد أصيب بالسرطان وجرى التعتيم على الخبر، على شاشة التلفزيون ليقول كلمته، ويدهش الجميع بالقول: «لقد سمعت صوت ثورتكم». وفجأة كانت الثورة الكلمة التي زعم الجميع أنه كان يبحث عنها. في البداية لم ترغب المجموعات التي شاركت في الاضطرابات استخدامها لأن الشاه استخدمها لوصف حزمة إصلاحاته بالثورة البيضاء. أما وقد أهدى الشاه المصطلح المحبب لـ«الثورة» إلى خصومه. ألا يعد ذلك إشارة إلى أنه سيسلم السلطة سريعا على طبق من فضة؟ جاءت الإجابة بعد أسابيع قليلة عندما أجرى الشاه محادثات سرية لتشكيل حكومته المؤقتة الآيلة للسقوط والتي ستسمح له ولعائلته بالخروج من إيران. لم يكن الشاه مستعدا للصمود والقتال لأن الملك، كما يقول، ليس مستبدا أو مدمرا، ولا يقتل شعبه ليحافظ على كرسيه. لكن تبني مصطلح «الثورة» لم ينه حالة الجدل. فالمجموعات المختلفة التي شاركت في الحركة ضد الشاه كانت لكل منها آيديولوجيات وأجندات متناقضة في الأغلب. فتمنى الكثير من اليسار استخدام صفة «ديمقراطية برجوازية» لوصف الثورة أملا في أن يكون ذلك مقدمة للثورة البروليتارية التي ستأتي لاحقا. وراودت المجموعات اليسارية أحلام الحكم على الطريقة الماوية «جمهورية الشعب»، وحاولوا وصف الأحداث بالثورة الشعبية (انقلاب خلق). بيد أنه ما إن رحل الشاه سارع الملالي لملء الفراغ الذي تركه غيابه. وعلى مدى أكثر من أربعة قرون هيمن خصمان، متناغمان في بعض الأحيان، وروايتان على السياسة الإيرانية، هما: القومية والإسلامية. كان الشاه حامل لواء التيار القومي، مؤكدا على تاريخ إيران السحيق كأمة آرية، يشكل الإسلام أحد مكوناتها الكثيرة التي تشكل الهوية الإيرانية المعقدة. وعقب ثورة 1979، هيمن المسار البديل، المسار الإسلامي، دون منازع. وبحسب تلك الرواية، كان تاريخ إيران قبل الإسلام «عصر ظلام» (جاهلية). وأن الوقت قد حان كي تتمسك إيران بهويتها الإسلامية الحصرية وأن تضطلع بدورها في قيادة العالم الإسلام وتكوين قوة إسلامية عظمى للوقوف في وجه القوتين العظميين الكافرتين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وعندما فرض الملالي هذه الرواية الإسلامية، بدأوا في الاستحواذ على مراكز السلطة واحدا تلو الآخر، والتخلص من الكثير من حلفائهم، وصل إلى اغتيالهم في بعض الأحيان. وما لم يتمكن الملالي من القيام به هو محو التناقضات الجوهرية للوجود الإيراني خلال القرون الخمسة عشر الماضية. وهناك أدلة كثيرة في الأدب والتاريخ الإيراني الذي يظهر أنه على الرغم من أن الإيرانيين لا يبدون رغبة في التخلي عن الإسلام فإنهم في الوقت ذاته لم يبدوا رغبة في العيش في ظل حكم إسلامي. ففي ظل المسار القومي كانوا غير سعداء لأنهم اعتقدوا، ربما خطأ، أنهم كانوا مدعوين لنبذ الإسلام. وفي ظل المسار الإسلامي، بدأوا يخشون من رغبة الملالي في حرمانهم من هويتهم الإيرانية. تغير النظام بمرور الوقت، لكن حالة الفصام الإيرانية كانت لا تزال قائمة بشكل واضح. فبعد خمسة وثلاثين عاما من استيلاء الملالي على السلطة لا تزال الكثير من التناقضات قائمة ولا تزال تشكل السبب الرئيس في السلوك الغريب الذي يسيطر على النظام الخميني في الداخل والخارج. كان على النظام الجديد التعامل مع الطموحات المتناقضة. فكان عليه أن يصف الدولة بالجمهورية، على الرغم من غياب هذا التقليد في الإسلام. وكان عليه أيضا أن يستخدم الشعار الإسلامي، على الرغم من أنه لم يستخدم على الإطلاق من قبل 300 أسرة حاكمة مسلمة حكمت إيران لنحو أربعة عشر قرنا. وأخيرا استخدموا كلمة إيران على الرغم من كون الإسلام دينا عالميا يجتاز الحدود الوطنية. ولعل ذلك كان السبب في وصف المرشد الأعلى بإمام المسلمين في العالم، لا في إيران وحدها. رسخ النظام الخميني أقدامه بتكلفة كبيرة من الأرواح، ففي السنوات العشر الأولى للنظام جرى إعدام وقتل نحو 150 ألف شخص في نزاعات مسلحة وقمع عنيف للثورات المحلية. كما حصدت الحرب العراقية الإيرانية نحو مليون شخص من كلا الجانبين. ومنذ ذلك الحين أعدم النظام نحو عشرة أفراد كل يوم. أضف إلى ذلك نحو سبعة ملايين إيراني، يمثلون نحو عشرة في المائة من الشعب الإيراني منفيين خارج البلاد، ويمثلون أيضا أضخم استنزاف للعقول في التاريخ، بحسب إحصاءات البنك الدولي. وخلال الخمسة والثلاثين عاما الماضية تعرض ملايين الإيرانيين للسجن، بتهم كاذبة في الغالب، واليوم تملك إيران ثالث أكبر عدد للسجناء السياسيين، يصل عددهم إلى نحو أربعة آلاف شخص، بحسب إحصاءات منظمات حقوق الإنسان. على الجانب الاقتصادي، تملك إيران سجلا حافلا بالإخفاق. ففي عام 1978 كانت إيران أكثر ثراء من كوريا الجنوبية، وكان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي معادلا لنظيره في إسبانيا، واليوم تأتي كوريا في المركز الثالث عشر وإسبانيا في المركز الخامس عشر، فيما تراجعت إيران إلى المركز الثامن عشر فيما يتعلق بالناتج المحلي الإجمالي. وعلى صعيد معدل النمو السنوي، عانت إيران لسنوات من النمو السلبي، حيث تراجعت إلى المركز 208 من بين 215 دولة. وامتزجت أسطورة الاكتفاء الذاتي التي أطلقها المرشد الأعلى، علي خامنئي بتأثيرات العقوبات الخانقة التي وضعت إيران في مأزق تكنولوجي. كان لنظام الخميني ثلاثة مصادر للشرعية، الأول بسبب الثورة الناجحة؛ فيرى التاريخ أن الجانب الفائز هو الذي يكتسب بصورة آلية مقياس الشرعية، بيد أن هذا المصدر للشرعية تقوض بمرور السنوات حيث خلق النظام الجديد طبقات حاكمة جديدة ونأى بعيدا عن الطموحات الثورية الأصلية. أما مصدر الشرعية الثاني للنظام فقد كان العودة لاستشارة الشعب في شكل سلسلة من الاستحقاقات الانتخابية. وعلى الرغم من أن تلك الاستحقاقات الانتخابية مثالية، فإنها وفرت في بادئ الأمر آلية محدودة لممارسة حق المناظرة والاختيار السياسي. غير أن ذلك المصدر بدأ أيضا في التآكل نتيجة الاتجاه المتزايد لتنظيم الاستحقاقات الانتخابية التي يخوضها مرشحون مدعومون مسبقا من النظام ومعروفة نتائجها سلفا، وهذا هو السبب الرئيس وراء تراجع أعداد الناخبين المشاركين في تلك الانتخابات، حيث شهدت الانتخابات الرئاسية الأخيرة، على سبيل المثال، أقل نسبة إقبال منذ قيام النظام الخميني، وفاز حسن روحاني بالانتخابات بأقل نسبة تصويت منذ نجاح الثورة الإسلامية. واستمد مصدر الشرعية الثالث قوته من الوعود بتوفير مستوى معيشة وحياة أفضل للفقراء. لكن هذا المصدر أيضا شهد تآكلا واضحا مع غياب العدالة الاجتماعية في شتى أنحاء البلاد. خلال صلاة الجمعة الأخيرة في طهران، عرض آية الله موحدي كرماني صورة قاتمة لانقسام المجتمع الإيراني إلى أغنياء وفقراء. وقال في خطبته: «ينبغي أن يولي أحدهم اهتماما كافيا لأولئك الذين يسحقهم البؤس (والفقر)». جاءت تلك الخطبة بعد أيام قليلة من محاولة الحكومة تخفيف الضغوط الواقعة على الفقراء من خلال توزيع خمسة ملايين سلة غذائية فيما يشبه نظام توزيع المساعدات الغذائية في فترات ما بعد الحروب. على الجانب الآخر، هل كان للثورة الخمينية أية إيجابيات؟ الإجابة: نعم، كانت هناك إيجابيات؛ إذ إنه لا توجد ظاهرة ما في التاريخ كانت نتائجها كلها سلبية أو كلها إيجابية. النتيجة الإيجابية الأولى للثورة الخمينية أنها شجعت الإيرانيين على الانخراط في العمل السياسي. قبل الثورة، كان غالبية الشعب الإيراني يعتقد أن ممارسة العمل السياسي يبقى حكرا على بضعة آلاف شخص في طهران. أما اليوم، فهناك الكثير من الإيرانيين - ربما يشكلون أغلبية – الذين يتبنون فكرا سياسيا ربما يساعدهم – إذا توفرت لهم المساحة والوقت – في إقامة نظام حكم أكثر إنسانية وديمقراطية. لقد أصبح من الصعب في زماننا هذا خداع الإيرانيين بالوعود التي يمكن أن تتحقق عن طريق المعجزات الثورية. النتيجة الإيجابية الثانية للثورة الإيرانية ترتبط ارتباطا وثيقا بالنتيجة الأولى. قبل الثورة، كانت هناك فئة قليلة من القادة ذوي الكفاءة العالية في مستويات القيادة العليا، بينما كانت مستويات القيادة المتوسطة تشهد القليل بالكاد أو الغياب التام لتلك الكفاءات. اليوم، العكس هو الصحيح. ففي البلدات الريفية النائية، هناك كثير من القيادات القادرة على فهم وشرح الوضع. والقيادات الوسطى والدنيا لدينا أفضل بكثير من نظرائهم الذين يعملون مع خامنئي، ورفسنجاني، وخاتمي، وروحاني. وتمتلك إيران أيضا مخزونا ضخما من المواهب الإدارية التي لم تتوافر لديها منذ 35 عاما. وقبل خمسة وثلاثين عاما، كانت وسائل الإعلام الإيرانية تمتلك عددا محدودا للغاية من الصحافيين والمحررين اللامعين. واليوم لدينا الكثير منهم، ربما أكثر من أي دولة أخرى في الشرق الأوسط. ومنح الإيرانيين الحد الأدنى من الحرية كفيل بأن يحقق المعجزات. ربما كانت بعض هذه الأشياء لتحدث على أية حال، مع أو من دون ثورة. ولكن الحقيقة هي أنها حدثت خلال الحقبة الثورية. ربما، الأهم من ذلك، أن مأساة عام 1979 وعواقبها أجبرت العديد من الإيرانيين، وربما الأغلبية، على التفكير بجدية في جرعة هويتهم، ما مقدار الجرعة الإيرانية وما مقدار الجرعة الإسلامية؟ الجواب على هذا السؤال يتطلب الاعتراف بالسياسة كفضاء عام مشترك لجميع المواطنين بغض النظر عن الخصوصيات الفردية والجماعية، بما في ذلك الدين. والاعتراف بهذه الحقيقة سيمنح إيران الثورة الحقيقية التي كانت تحلم بها منذ 150 عاما والتي لم تتمكن من نيلها على الرغم من الكثير من الآمال الكاذبة.