×
محافظة المنطقة الشرقية

أحمد مسعود للاعبين : كلي ثقة بكم لإسعاد الجماهير

صورة الخبر

لم تكن لي أية قناعة بجدوى تعليم الكتابة، الورشة جيدة تقنيًا، ولكن ليس أكثر من ذلك، إيماني الكبير كان هو أن الكتابة موهبة مصدرها سلسلة من المورثات المعقدة والاستعدادات، كما يقول علم نفس الأعماق وعلم النفس الإكلنيكي أيضا، لا يمكن ان نصنع كاتبًا، إما أن يولد كذلك، وإلا فلا شيء. عندما بدأت الكتابة كنت دائمًا أسأل عن الموضوع بهدف البحث عن إجابة تتعلق بهذه المعضلة الفنية أو تلك، في الثانوية وخارجها، واستغرب أن الإجابات كانت واحدة: الموهبة. إما ان تكون موهوبًا أو لا تكون، وكان هذه الأخيرة كتلة جامدة. لكن القراءات الكثيرة ذللت لي الكثير من الصعاب، عندما دخلت غمار الكتابة الأدبية وبدأت أخرج من الانطباعية الذاتية والكتابة العاطفية التي تتماهى فيها الحياة مع مكامن القلب. واستطعت أن ألعب مع الزمن لتصحيح حماقات الكتابة وأخطائها بنفسي من دون الاعتماد على أحد باستثناء أساتذتي الذين كانوا معلمي لغة أكثر منهم مبدعين. شيئًا فشيئا أدركت أن الموهبة شيء مهم. لكنها لا لم تكن كافية. كانت تحتاج إلى شيء آخر قد لا يكون حاسمًا لكنه شديد الأهمية. قدرات ممكن تعلّمها عند مختصين كما نتعلّم الموسيقى أو الرسم كمفهوم الزمن في الرواية وكيفيات استعماله، الخيارات اللغوية وبناها وجدواها أيضًا كاستعمال العامية والوصف واللغة الشعرية، الشخصيات وبناؤها والتفريق بين الشخصية الأساسية والفرعية والمساحات التي تشغلها في النص الروائي أو القصصي، وغيرها من المعضلات السردية التي تحتاج بالدرجة الأولى إلى جانب تعليمي وتطبيقي. وفي بحثي لفهم الظاهرة، اكتشفت فجأة أن في أمريكا مدارس قائمة بذاتها يديرها كتاب مرموقون، تدرّس تقنيات الكتابة في شكل ورشات مهمة يأتيها الكثير من المهتمين ويدفعون ثمنًا غاليًا وقد حضرت لبعضها في لوس أنجلوس. ومع الزمن تغيّرت القناعة، بل كان يجب أن تتغيّر. كانت المحترفات الكتابية تولد في كل مكان. حتى في جامعة باريس الثامنة التي كنت أدرس فيها، كان هناك ما يشبه ذلك. الكثير من الكتاب الفرنسيين أو المستضافين من العالم في إطار إقامات إبداعية، يأتون للجامعة وينشّطون حلقات كتابية في شكل ورشات لمن أراد ذلك. حتى أن بعض المدن الأوروبية كانت تستغل إيجابيًا وجود كتّاب في ضيافتها بتنظيم ورشات كتابة في مكتباتها أو الميدياتيك مع الكاتب الزائر لها مبدعًا ومحاضرًا عن مشروعه الكتابي وأيضًا منشّطًا لسلسلة من الورشات. وكانت الفائدة شديدة الأهمية. القصد من وراء ذلك ليس عرض التجربة الشخصية بقدر الهدف التعليمي ولا تأتي الخبرة إلا كتأكيد. من هنا بدأ اهتمامي بالورشات بشكل كبير. مارست هذا العمل بشكل فعلي ومنظم عندما طلبت مني وزارتا الثقافة والتربية الفرنسيتين في سنة 1993 لتنشيط ورشة كتابة على مدار السنة في مدينة مونت لاجولي. كانت المسألة تجريبية بالنسبة للوزارتين لاكتشاف المواهب في الثانويات. الورشة كانت لها طبيعة خاصة. مثل الدرس برئاسة كاتب ومساعدين معه، أستاذين من نفس الثانوية حتى لا يشعر التلاميذ بالغربة مع شخص يرونه للمرة الأولى. الدرس يخص فقط التلاميذ ممن يشعرون أنهم يملكون قليلا من الموهبة ما يؤهلهم للمتابعة. الخيارات الفنية الوطنية كانت مفتوحة على كل الفنون المسرح، والرسم، والموسيقى، وحتى الرياضة. للتلميذ الحق في اختيار ما يشاء. والكتابة كانت أحد الخيارات الفنية التي ادخلتها وزارة التربية بالاتفاق مع وزارة الثقافة، لأول مرة وكانت النتيجة في نهاية السنة شديدة الفائدة. الثانوية التي سلمت لي وقتها كانت تقع في منطقة شديدة الحساسية والأولوية ZEP. كانت ذات غالبية مغاربية. عندما دخلت لأول مرة إلى القسم فوجئت بالفوضى والدرجة العالية للعنف اللغوي وضياع الأستاذتين المرافقتين لي في محاولة إسكات ضجيج التلاميذ المفترض كتاب المستقبل أو على الأقل البعض منهم. لم تتمكن لا مدام سيلفي ولا مدام مزيان فاطمة، الفرنسية ذات الأصول المغربية من السيطرة على القسم إلا عندما قالت لهم: ضيفكم اليوم الذي سيرافقكم كاتب جزائري. فصرخت القاعة جماعيا ويييييي تعبيرًا عن السعادة وكأنهم وجدوا فجأة شخصًا يشبههم. شيئًا فشيئًا استقام الأمر. بيت القصيد هو أن أكثر التلاميذ فوضى تغيّر فجأة رأسًا على عقب، بسبب حادثة بسيطة. كنا في ساحة الثانوية في استراحة. جاء نحوي ليسألني في فوضى: هل يمكن لشخص مثلي أن يصبح كاتبًا؟. قبل أن أتكلم معه انتبهت ليافطته المعوجّة وغير المستقيمة. صلّحتها وهذه عادتي حتى مع أصدقائي وليست أكثر من حركة عفوية. فجأة نظر إلي بعينين اكتشفت لأول مرة أنهما كانتا جميلتين بلون أصفر. أحنى رأسه وكأنه لم يكن ذلك الشاب الفوضوي الذي أعرف، ثم قال: يا سيدي.. لأول مرة في حياتي تمتد يد نحوي لتصليح يافطتي. وكأنه لم يكن ينتظر إلاّ ذلك. مع الأيام أصبح يخجل مني احترامًا وبدأ يجتهد، بل أن نصّه ونصّ شابة أخرى كانا الأفضل، حتى أتممنا الدورة. وذهبت بأربعة تلاميذ، الأحسن في الدورة، إلى بيت الكتّاب la maison des écrivains في عمق باريس، كما فعل بقية الكتّاب المنشّطين للورشات عبر التراب الفرنسي. وكان اللقاء مع وزير الثقافة يومها دوست بلازي مهمًا، إذ كان هو من اختتم الدورة وقرأ بعض الأعمال المعلّقة في صالة اللقاء. وكان التلميذ الذي رافقني في قمة السعادة وهو يتحدث مع الوزير، الذي قرأ جزءًا من عمله وأثنى على لغته. من هذه التجربة أدركت ان الورشات ضرورة كتابية، وأن التعليم هو جزء من العملية وليس شيئًا إضافيًا. الموهبة دافع أساسي في العملية الإبداعية لكنها لا تكفي.