×
محافظة المنطقة الشرقية

157 متبرعاً بالدم في الأحساء

صورة الخبر

أوائل ثمانينات القرن الماضي، وفي أوج حكم حافظ الأسد، الذي امتد على مساحة ثلاثة عقود من القهر والاستبداد والفساد، نشطت عمليات تهريب أغنام العواس من سورية إلى دول الجوار، وصارت محافظة الرقة السورية قِبلة لتجار ومصدري الأغنام إلى الخارج، لاشتهارها بتربية هذا النوع المرغوب المتميز ببياض لونه، ودهنية ذيله، وتكيفه البيئي، ناهيك عن تحمله الحرارة الشديدة والمواسم القاحلة، وقدرته على التكاثر في أصعب الظروف. هذا الإقبال الكبير على "غنم العواس" أثر على سعره، وأجبر الرقي الذي كان يكرم ضيفه بعزيمة يذبح فيها خمسة من العواس بالحد الأدنى، يكتفي بذبح واحدة محتاراً على أي "المناسف" يضع رأسها، مما دفع الناس الى ابتكار طرق جديدة في تقديم الطعام، تغطي على غياب لحم العواس بالمقادير التي يشتهونها. في تلك الفترة، التي امتدت عقوداً من الزمن، قرر رئيس الوزراء (عبد الرؤوف الكسم) زيارة محافظة الرقة مع رهط مرحرح من الوزراء، للتعرف على حاجات المحافظة، ووضع الخطط لحل مشاكلها، ومراقبة مدى الالتزام بتطبيق النهج الاشتراكي للدولة، والتعرف على أحوال المخبرين واحتياجاتهم، خاصة أن بعض أرياف الرقة كانت معروفة، أنه بين المخبر والمخبر مخبر، وأن المخبر يخبر على المخبر، وهكذا دواليك! هنا بدأت الحكاية.. كان السؤال الذي أقض مضجع المحافظ محمد سلمان وعمل مع رؤساء الدوائر والبلديات وعمال النظافة وأعضاء قيادة فرع حزب البعث وقادة أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وفرع الاتحاد النسائي على الإجابة عنه هو: كيف نقيم مأدبة غداء أضخم من مثيلاتها التي أقيمت في المحافظات التي زارها رئيس مجلس الوزراء من قبل؟!.. مأدبة تجعله يوقع على أضابير المشاريع التي سيقدمونها دون تردد أو تدقيق أو نقاش قد يقلص ميزانيات تنفيذها، التي تركوا فيها -كعادة مخططي ذاك الزمان- هامشاً "مرحرحاً" يرضي جيوب من اقترحها ومن سيشرف على تنفيذها، ومعروف لدى أهل الرقة، أن كثيراً من هذه المشاريع كان خلبياً، من النوع الذي يخطط على الورق، وينفذ على الورق ويتم تسلمه على الورق، وتجتاحه السيول والطوفان على الورق، فيما يتقاسم الجمع تكاليفه كل حسب موقعه، وقد أحصيت في وثائق رسمية وقعت بيدي، أن طول المسافات الطرقية المزفتة -على الورق طبعاً- في محافظة الرقة، يزيد كثيراً على طولها في ولاية كاليفورنيا؟! ما علينا.. نعود إلى حكايتنا.. بالفعل.. وبعد اجتماعات كثيرة، وصلوا فيها الليل بالنهار، قرروا إقامة المأدبة في مقصف الرشيد، الذي تتعامل معه كل دوائر المحافظة تنفيذاً لتوجيهات المحافظ، واحتراماً لقدرة صاحبه على تقديم فواتير قانونية صلبة "لا يخر منها الماء" تراعي إرضاء جيوب المحاسبين، ومتضمنة كلفة سهراتهم "المطنطنة" في الفترة الواقعة بين مأدبتين رسميتين، والأهم من هذا وذاك، أنه من أبناء الساحل المدلل! تسلم صاحب المقصف الأمر القاضي بإقامة مأدبة "تاريخية حضارية" تليق بمقام الزائر الكبير، لا تكون فولكلورية يتصدرها المنسف التقليدي وما شابه.. مأدبة يكون "الكباب" طبقها الرئيسي.. وفوراً أمر الرجل ببدء التنفيذ مستنفراً العاملين لديه، كما دعمهم بآخرين يساعدونهم، وطلب من مورد اللحم الذي يتعامل معه أن يحجز كل ما عنده من لحم لهذه المأدبة التاريخية.. والشهادة لله والتاريخ.. تمكن الرجل من إقامة مائدة تحدثت عنها الركبان سنين، خاصة أنها مقامة لعلية المسؤولين في ذلك الزمان، فقد حضرها إضافة لرئيس الوزراء والوزراء المرافقين له ومرافقيهم وسائقيهم، محافظو حلب ودير الزور والرقة المضيفة وكل المديرين العامين في تلك المحافظات ومعاونوهم ومرافقوهم وسائقوهم، وكل مديري دوائر الرقة ومعاونوهم وسائقوهم ومرافقوهم، ورؤساء الأجهزة الأمنية ومعاونوهم وأبرز مخبريهم من حثالة السكان، وكل رؤساء فروع حزب البعث العربي الاشتراكي وأعضاء الفروع، ورؤساء أحزاب الجبهة الوطنية الديمقراطية ورؤساء المنظمات الشعبية وممثلو الطبقات الكادحة من عمال وفلاحين.. كلهم حضروا وأكلوا حتى التخمة، يضاف إليهم عائلات الذين تفرغوا لمتابعة أمور إعداد تلك المائدة التاريخية، وبعض جيرانهم الذين حملت لهم أطباق "السفري" الكرتونية المطلية بورق السلوفان اللماع، ولا مشكلة في الفاتورة مهما بلغت؛ لأن الأوامر العليا السائدة في ذلك الزمان الأسدي البعثي، كانت تقضي بأن لا تدقق فواتير إطعام المسؤولين الضيوف، إذ كيف يمكن للمسؤول خدمة قضايا وطنه المصيرية في الوحدة والحرية والاشتراكية وتحرير الجولان ولواء إسكندرون وفلسطين والمسجد الأقصى وعربستان، ودعم قضايا الشعوب في التحرر من نير الاستعمار والإمبريالية ودعم الشعب السوفيتي الصديق، ومحو الأمية ومحاربة الإقطاع والرجعية، ونشر فكر القائد الخالد بمعدة صغيرة خاوية؟! وعلى ذمة بعض الرواة، الذين حضروا وكانت كراسيهم قريبة من مكان جلوس رئيس الوزراء في صدر المكان، فإنهم أكدوا أن البسمة لم تفارق ثغره الفتان، وحلفوا بأغلظ الأيمان، أن تورد خدوده قد بان رغم سماره الشديد، وأن انتفاخ شدقيه لم "يفش" للحظة ، بل وزادوا أن معاليه اعترف بعالي الصوت أنه لم يأكل في حياته بمثل هذا النهم، وأنه أشاد بكرم المسؤولين وطيب حفاوتهم وأكد "بعظمة لسانه" على طيب "الكباب الرقي" واللحم الرقي الذي يشبه المستكة، ووعد بزيارة أخرى في وقت قريب، وبعدها وقع -دون تردد أو تدقيق- موافقاً على أضابير المشاريع الوطنية، التي حملها مديرو الدوائر الذين وقفوا في صف طويل أمامه، ينتظر كل منهم دوره. في اليوم التالي وبعد أن خلت الشوارع من زحمة سيارات المرسيدسات التي غصت بها ساعة المأدبة، وبعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، لاحظ أهل الرقة أن الحمير في المدينة ما عاد لها ذكر، وهي التي لا تغيب عادة عن ساحة احتفالات حزبية أو شارع فيه مقر حزبي.. بحثوا.. بحثواً طويلاً وبعد يومين من سفر رئيس الوزراء اكتشفوا أن متعهد تقديم اللحم للمقصف أبوعبدو اللحام (الاسم وهمي) ومع قلة غنم العواس المعروضة، قام باستنفار أصدقائه من لحامي المدينة، خاصة الذين تربوا على يديه، وقاموا في ليل الرقة وهوائه العليل بتجميع الحمير الداشرة في المدينة والقرى القريبة، وسوقها إلى بستان قريب ونحرها، وسلخها، و"تشفية" لحمها وفرمه كباباً، ومن ثم إرساله إلى المقصف الذي صار معلماً تاريخياً من معالم المدينة! من يومها والحسرة في قلب المحافظ -صار بعدها وزيراً للإعلام، واليوم قائداً لفصيل معارض "هرتك" مصنوع في أحد الفروع الأمنية- لأنه لم يستطع، رغم نفوذه القوي، ويده المخابراتية التي تطال القاصي والداني، إيجاد طريقة لمعاقبة أبوعبدو اللحام، الذي اعتقل وقدم للمحاكمة وخرج بعد يومين؛ لأن كتب القانون لا تحوي مادة تعاقب من يقوم ببيع لحم الحمير، ولأن الجهات العليا في العاصمة قد أوعزت للأجهزة الأمنية بلفلفة الحكاية ومنع تداولها! ومن يومها -أيضاً- لاحظ أهل المدينة أن كل الوزراء والمسؤولين الذين زاروا الرقة بعد تلك "المأدبة التاريخية" يتمنعون عن أكل اللحم الأحمر الذي استبدلوه بالفروج المشوي والسمك النهري، وأغلبهم كان يكتفي بالسلطات والحمص والمتبل والعيران متذرعاً بالريجيم القاسي الذي يتبعه حسب نصيحة طبيبه. أما أبوعبدو اللحام، فقد ترك المهنة متنقلاً من مقهى إلى مقهى ومن مضافة إلى مضافة، راوياً ما حدث معه في الليلة، التي سبقت تلك "المأدبة التاريخية"، ومفصلاً في الحديث عن الطرق التي ابتكرها في جمع الحمير، وذبحها، وسلخها، وفرم لحمها بفترة قياسية، ومقسماً بأغلظ الأيمان أنه من يومها لم تمر عليه ليلة دون أن يرى في منامه "حميراً تأكل حميراً"!! ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.