النسخة: الورقية - دولي الخيبة التي أصابت المثقفين السوريين المعارضين بعد ثلاثة أعوام على اندلاع الثورة، ليست مستهجنة، لكنها لم تكن - ولن تكون - مدعاة إلى اليأس المطلق حتى وإن بدا «الانتصار» حلماً مستحيلاً. ولعل الثورة نفسها لم تهدف منذ لحظتها الأولى، البريئة والنقية، إلى إحداث انتصار يشبه انتصارات الثورات المجيدة في التاريخ. كانت غايتها مواجهة الظلم الذي مارسه النظام البعثي طوال عقود، بعدما تخطى تخوم المعقول والمتخيل، واستحال ضرباً من ضروب البربرية الجديدة. كان المثقفون يعلمون جيداً أن إسقاط النظام سيكون فادح الثمن، فهم خبروا عن كثب وحشية هذا النظام وقسوته ونهجه الديكتاتوري، وقد وجدوا في المقاومة السلمية التي شاركوا فيها علانية في البداية، الطريقة الأسلم للمواجهة المفتوحة التي لم يعتادوا عليها من قبل، مثلهم مثل الشعب السوري نفسه، المقموع والمظلوم، سياسياً وإنسانياً. لكنّ «عسكرة» الانتفاضة التي فرضتها الظروف اللاحقة وأكّدتها، سرعان ما شرّعت الأبواب أمام الرياح العاصفة من هنا وهناك، منذرة بـ «ربيع» سوري قاني الحمرة، رمادي، شديد القتامة... ولم تمضِ أشهر حتى اكتشف المثقفون المعارضون أن ما كانوا يتوقعونه حصل. الثورة الشعبية النقية أضحت ثورات والثوار الحالمون انقسموا حتى التقاتل والتناحر، وكان على جماعات التكفير والجهاد الظلامي أن تشق طريقها إلى قلب الثورة وتصبح طرفاً من أطرافها وتحتل في أحيان موقع الصدارة فيها. وباتت تسمية الثورة على قدر من الالتباس: انتفاضة أم ثورة أم حرب أهلية أم حرب إقليمية ذات قناع أهلي أم حرب الأصوليات على الأرض السورية؟ أما النظام فكان واضحاً جداً منذ تسمية ما يحصل «حرباً على الإرهاب»... إرهاب يحارب إرهاباً، بل إرهاب منظّم وممنهج كما بات يُقال، يحارب إرهاباً فوضوياً ظلامياً ساهم النظام نفسه في صنع بعض أطرافه. كان لا بد من أن يصاب المثقفون السوريون المعارضون بخيبة عميقة، على خلاف مثقفي النظام واتباعه، لا سيما في لبنان الذين يشعرون بأنهم على مقربة من انتصار وشيك هو أولاً وآخراً انتصار على البلاد التي لم يبق منها سوى بضعة أشلاء. كان لا بد من الخيبة بعدما انحرفت الثورة عن غايتها النبيلة ووقعت في براثن التكفيريين، وهم على قدر وحشية النظام وظلاميته وطائفيته المتوارية خلف ستار «العلمانية». أضحت الثورة في بعض نواحيها حرباً بين إرهابين، بين أصوليّتين، بين جزّارين... وفي الوسط ضحايا يسقطون عبثاً ومن غير جدوى، ضحايا بالمئات والألوف... ناهيك عن سيل المهجرين والنازحين إلى جهات الأرض الضيقة، ويقال إن أعدادهم تخطت الأربعة ملايين. كأنهم بلدان تنزح بكاملها. تتمثل خيبة المثقفين المعارضين في عبثية نهايات هذه الثورة، هذه الحرب التي كانت تسمى ثورة. لن تكون لها نهاية واحدة، بل نهايات يصنعها أو يخضع لها الأطراف المتقاتلون الآن. النظام يوغل في وحشيته التي فاقت وحشية النازيين كما عبر بعض المراقبين الدوليين، يمعن في قتل الأبرياء و «الأعداء» بلا هوادة، يدمر البلاد تدميراً «ممنهجاً» لئلا يبقي فيها حجراً فوق حجر، يمطر المدن براميل حارقة بعدما أمطرها قذائف كيماوية... أما الظلاميون والتكفيريون القادمون لتوّهم من ليل التاريخ فهم يمارسون القتل العشوائي الذي يأباه الدين ويعيثون خراباً حيثما حلّوا... كان على الكتّاب والفنانين السوريين القلقين على الثورة والبلاد أن يلجأوا إلى الأدب والشعر والرسم وسواها من الفنون، كي يواجهوا هذه الخيبة الكبيرة وكي يتلمسوا الطريق للخروج من هذه المتاهة التي تحاصرهم. لم يبقَ أمامهم إلا قليل من أمل، بقعة ضوء صغيرة وسط هذا الظلام الحالك... لم يبقَ أمامهم سوى حلم ضئيل بعودة إلى حيث لا يعرفون. غادر الكثيرون منهم، في ما يشبه حركة نزوح جماعي، إلى المنافي. من بقي هناك، في ما تبقى من سورية، يعاني منفى مزدوجاً، غربة مزدوجة. ولا غرابة في أن تعتري حال من الإرباك، هؤلاء المثقفين، تشبه كثيراً أحوال الفلسطينين عندما غادروا أرضهم التي احتلها العدو الإسرائيلي. حال من الاضطراب تساور هؤلاء، إزاء مأساة تماثل مأساة فلسطين وتفوقها دراماتيكية، لكنّ العدو هنا أهلي وليس غريباً، عدو «وطني» مغتصب ومحتل. ثلاثة أعوام مضت على اندلاع ما سمي انتفاضة وثورة وأضحى حرباً رهيبة وكارثة لم يكن أحد يتخيل طابعها الكارثي الذي لا يوصف. كان اللبنانيون يعدّون على أصابعهم أعوام حربهم منتظرين نهايتها عاماً تلو عام. السوريون اليوم لم يتسنَّ لهم أن يعدّوا أشهر حربهم وأيامها، إنها الحرب الأسرع والأبشع والأهلع. حرب بين أطراف تصرّ جميعاً على تحقيق انتصار ولو لم تبق بلاد أو شعب.