×
محافظة المدينة المنورة

توقعات بهطول أمطار على المدينة المنورة

صورة الخبر

تتوجّه الإيطاليّة سوزانا تامارو في روايتها «اذهب حيث يقودك قلبك» بخطاب شامل إلى القرّاء عن شقاء الإنسان وسعادته في رحلته القصيرة في الحياة، وذلك على لسان امرأة عجوز تكتب لحفيدتها يوميّاتها ومذكّراتها على صيغة رسائل مؤجّلة ووصايا تنطلق من خبرة حياتيّة متراكمة وتجارب واقعيّة كثيرة مرّت بها. الرواية التي ترجمتها أماني حبشي، ونشرتها سلسلة إبداعات عالمية الكويتيّة، تقارب مفهوم الزمن وتأثيراته وتداعياته على الإنسان، وتكون حالة العجوز أولغا في وحدتها الموحشة نموذجاً لغربة الإنسان المتعاظمة، ولاسيّما حين ينفضّ من حولها الأهل والأقارب، ويرحل كلّ منهم في اتّجاه إلى عالمه. تحرّر تامارو روايتها من الصيغة التقليديّة، لا تلتزم بعناصر الرواية المفترضة ولا بالحبكة وتأزّمها أو انفراجها، بل تركّز على حديث داخليّ يبحث عن أصدائه لدى الآخر، يكون الإرسال هو الفعل المشتمل على الحضّ على الأفعال التالية من تعرّف إلى الذات واكتشافها والتصالح مع الوقائع وعدم هدر الوقت والطاقات في صراعات عبثيّة لا جدوى منها. تقرّر العجوز أولغا أن تخبر حفيدتها الذاهبة لإكمال دراستها في أميركا بكلّ شيء. تقرّر أن تفرغ ما في جعبتها، تخبرها أنّ درعها التي تمزّقت لم تعد تسمح لها بأن تتحمّل الانفعالات القويّة، فلكي تستمرّ يجب أن تروّح عن نفسها. يجب أن تستعيد أنفاسها. تكون الكتابة مصدر استشفاء بالنسبة إليها. تتذكّر أولغا لحظة وداعها حفيدتها، وكيف أنّ الدموع عاندتها، وتبوح لها بأنّ الدموع التي لا تخرج تتراكم فوق القلب، وبمرور الوقت تكوّن فوقه قشرة وتشلّه مثلما تفعل الرواسب الجيريّة في تروس الغسالة الآلية. تخبرها أنّ في سنّها هناك أشياء كثيرة تحتاج إلى تنظيم بداخلها، هناك المشروعات، وفي المشروعات يكمن عدم الأمان. وتذكّرها أنّ الجزء غير الواعي ليس لديه نظام أو منطق واضح، فمع بقايا اليوم، المشوّهة والمنتفخة، تختلط الأمنيات الأكثر عمقاً، وبين الأمنيات العميقة تتسرّب احتياجات الجسد. وقد تتحوّل الاحتياجات إلى أحلام قاهرة. تبوح لها بتسلّط الأفكار الاستحواذيّةّ، وبأنّ الحياة ليست سباقاً، ولكنّها سعي نحو الهدف، وليس توفير الوقت هو المهمّ، ولكن الأهمّ هو إيجاد الهدف. تسرد لها ما يقال من أنّ ذنوب الآباء تقع على الأبناء، وذنوب الأجداد على الأحفاد. تصارحها أنّ هنالك حقائق تحمل في طيّاتها معنى الحرّيّة وحقائق أخرى تحتوي على المرعب. تنتقل من الشأن الخاصّ إلى العامّ، تثير لديها رغبة البحث عن الجذور، تراها تسعى إلى تصعيد الأفعال وتوجيه الخيالات، تنتقل من خيالات العصابات إلى تلك الخيالات الخاصّة بالنزعة الخيرية والإحسان. ثمّ تعترف لها بالتربية الخاطئة التي تلقّتها، تلك التي لم تتوافق مع تركيبتها النفسيّة، وخلقت لديها فجوة في التواصل مع الآخرين، زعزعت إيمانها بنفسها وطاقاتها. إذ كان عليها التظاهر بعكس حقيقتها لتتجنّب الصدام، وكي تبدو محبوبة للجميع. وكيف كانت تخشى المواجهة والمعارضة. وتمّ تعليمها أنّ المظهر هو كلّ شيء، وأنّ أيّ شيء بعيد من ذلك لا يليق بها. هكذا كبرت وبداخلها الشعور بأنّها شيء شبيه بالقرد الذي يجب تدريبه جيّداً وليس الإنسان، شخص له أفراحه وأتراحه، شخص يحتاج لأن يكون محبوباً. تخبر أولغا حفيدتها أنّ اعتياد التعاسة عادة ما يتّبع التسلسل النسائيّ، مثل بعض الصفات الوراثيّة، فهو يعبر من الأمّ إلى الابنة، وأثناء عبوره وبدلاً من أن يصبح أهون، يصبح أكثر كثافة بالتدريج، يصبح أكثر ثباتاً وعمقاً. وتحدّثها عن إيلاريا؛ ابنتها الراحلة، التي كانت حلقة الوصل بينهما، والتي كانت علاقتها معها مشوبة دوماً بسوء تفاهم. تلتقط تامارو تأثير المتغيّرات الخارجيّة على نفسيّة المرأة، وتغيّر أفكارها تبعاً للمرحلة العمريّة، من ذلك أنّ النظر إلى فكرة القدر يختلف بالتقادم، تكشف بطلتها لحفيدتها أنّ فكرة القدر هي فكرة تأتي مع التقدّم في السنّ، عندما يكون المرء في سنّ الشباب عادة لا يفكّر في هذا. كلّ شيء يحدث يراه على أنّه ثمرة إرادته الخاصّة. بعد ذلك تتغيّر القناعات رويداً رويداً، ليدرك المرء أنّه منقاد في طريق مرسومة سلفاً. تطلب البطلة الوحيدة من حفيدتها أن تتدارك الأخطاء التي وقعت فيها، تطلب منها أن تحبّ ذاتها وأن تكون واثقة من نفسها مقدّرة لها، وألا تترك لمشاعر الضعف والهشاشة أن تقودها أو تتملّكها. وألا تفسح المجال للهزيمة أن تغرقها. وتقول لها إنّ حلّ المشاكل يأتي من خبرة كلّ الأيّام، من النظر إلى الأشياء كما هي على حقيقتها، وليس كما يظنّ بعضهم، كما يجب أن تكون. وإنّه في اللحظة التي يبدأ المرء فيها التخلّص من أثقاله، وإبعاد ما لا ينتمي إليه، فهو بالفعل على الطريق الصحيح. تطلب الراوية من الشخصيّة التي يفترض أنّها ستتلقّى خطابها التركيز على دور العقل، لكن من دون أن يؤدّي بها ذلك إلى تهميش دور القلب والعاطفة. تقـــول لها إنّ العقل سجين الكلمات، وإذا كان هناك إيقاع ينتمي إليـــه، فهو ذلك الإيقاع الفوضويّ للأفكار، ولكن القلب يتنفّس، فبين كل أعضاء الجسم هو الوحيد الذي ينبض، وهذا النبــض هـــو الـــذي يسمح له بالدخول في تـــنـــاغم مع نبضات أعظم. تكتب أولغا لحفيدتها الغائبة أنّ هناك أشياء تسبّب الآلام العظيمة بمجرّد التفكير فيها. ثم إن مجرد التفوه بها يسبب ألماً أكبر. أكاذيب تحولت بالتقادم إلى ما يشبه الحقائق. وأن معرفة النفس والتعرف إليها من أهم شيء في الحياة. ولابدّ من الدخول إلى الذوات واستكشافها، وأن المَعْلم الوحيد الحقيقي الموجود الذي يمكن تصديقه هو ضميرنا. تنبّهها إلى أن تأثير الروح في الجسد، يأتي كشيء شبيه بنظام المرايا، إذ يضيء كلّ منها الآخر. تحدّث الراوية حفيدتها عن بعض العلامات الفارقة في حياتها. كالحرب التي يستحيل عليها نسيانها، تقول لها معبّرة عن حالتها أيّام الحرب العالميّة الثانية، إنّ وجود حرب بهذا القرب وبهذه الجدّيّة يثير بداخلها اضطراباً شديداً. يتّحد لديها شعور بالسخط والألم، يتحوّل إلى غضب يعبث بها، ولم تفقد التأثّر بالحرب وتداعياتها، ولم تعتد عليها بمرور السنين، فتجد أنّ مصطلحات حربيّة تتخلّل الحياة الواقعيّة، من قبيل الفوز والخسارة، وهي تفيد في وصف صراع خفيّ داخليّ مستعر. تعبّر لها أنّ التاريخ يجعل أشياء كثيرة تحدث، فيشعر المرء في النهاية بأنّه مُستنزف. الوصية الأخيرة، والتي تعكس رؤية الروائيّة نفسها، وتبدو خلاصة الوصايا كلّها بالنسبة إلى بطلتها، ومنها تستمدّ قوّتها وعزيمتها وأملها، حين تطلب من حفيدتها وتوجب عليها أن تمكث داخل الأشياء وترتفع فوقها في الوقت نفسه، بنوع من التسامي، وأنّها، عندما تنفتح أمامها طرق كثيرة، ولا تعرف أيّ الطرق تتّخذ، ينبغي عليها ألا تسير في أحدها مصادفة، بل أن تجلس وتنتظر. تتنفّس بالعمق الواثق الذي تنفّست به يوم جاءت إلى الدنيا، ولا تجعل أيّ شيء يشدّ انتباهها، تقول لها: «انتظري ولتنتظري طويلاً. توقّفي في هدوء، واستمعي لقلبك. وعندما يتحدّث إليك بعد ذلك، انهضي واذهبي حيث يقودك». لأنّ نداء القلب يكون نداء الحياة الحقيقيّة.