جنّته ناقصة من لم يدخل جنّة اللغة، ويتفيأ ظلالها وينعم بقطف ثمارها. ومصطفى صادق الرافعي رحمه الله يتربّع على عرش لغوي من خلاله يلد قلمه المعاني تلو المعاني، ومن لم يقرأ له مادخل جنّة اللغة، وفاته المعين العذب لهذا الأديب الفذ الذي قال عنه أدباء عصره وخصومه الكثير، ومن بينهم العقاد الذي قال بعد وفاة الرافعي بثلاث سنين: «إن للرافعي أسلوباً جزلاً، وإن له من بلاغة الإنشاء ما يسلكه في الطبقة الأولى من كُتَّاب العربية المنشئين». وكذلك السياسي والصحفي مصطفى كامل باشا قال:»سيأتي يوم إذا ذكر فيه الرافعي قال الناس:هو الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالب من البيان». يتقاطع الرافعي مع ألد خصومه طه حسين في الإصابة بمرض سبب له عاهة مستديمة فالأول فقد سمعه والثاني فقد بصره وكلاهما أصر على تجاوز هذه الإعاقة، كما يتقاطع مع خصمه اللدود الثاني العقاد فكلاهما يحمل شهادة الابتدائية، وكلاهما أصر على مواصلة البحث والإصرار على المعرفة. الرافعي الذي حفظ القرآن قبل سن العاشرة، وأصدر ديوانه في العشرين، من بيت متعلم فوالده كان رئيسًا للمحاكم الإسلامية، معروفًا بالورع والعلم الغزير ولعل هذه مايبرر الأسلوب الوعظي الذي تميز به الرافعي في الكثير من كتاباته ومواقفه. الرافعي ماعاش لنفسه فقط بل عاش للناس، وماشرح شعوره فقط بل شرح شعور الناس وكتب عن مواجعهم ومايقاسونه وكتاب «المساكين» فيه نبأ عظيم عن حساسية الرافعي في التقاطه لمتاعب الناس وتصويرها. للحب في حياة هذا الواعظ ومؤلفاته وافر الحظ والعذاب وإن كان يزعم في بعض كتبه أن ماكتبه من لواعج الشوق والحنين حدثه بها صديق له فكتبها عنه بأسلوب أدبي جميل!. هل كان يخشى من الإفصاح في مجتمع محافظ أو كان يخشى من أو على الحب الذي يراوده على قلبه وقلمه؟!. وعلى كل حال كل ما كتبه في الحب يدل على رهافة الإحساس، وشاعرية مقيمة لا تغادره حتى في النثر، وباقية في مواسم الترح والفرح، و «حديث القمر»، «رسائل الأحزان»، «السحاب الأحمر»، «أوراق الورد» خير شاهد على هذا. أهم كتبه في اعتقادي «وحي القلم» كان في 3 أجزاء الآن تطبع في مجلد ضخم وهو عبارة عن مجموعة مقالات وقصص كتبها لمجلة «الرسالة» ثم جمعها في جزئين والجزء الأخير ماطبع إلا بعد وفاته. ومن يقرأ هذا الكتاب يتسنّى له معرفة أسلوب الرافعي القصصي الجميل، ولغته المتفردة،وسرده المتين الخالي من أي ثقب أو ثغرة تشوّه الحبكة. ومازلتذكر رغم الفارق الزمني بين هذه اللحظة وبين قراءتي لهذا الكتاب ماكتبه تحت عنوان «عربة اللقطاء» وذلك المشهد الذي صوره بحروفه عن حياة اللقيط وبؤسه وبؤس الوجود الذي قذف إليه. رحم الله الرافعي كان حادًا في مواقفه، دقيقًا في وصفه وأعتقد متعصبًا لرأيه، وتبقى الحقيقة المتوهجة في وضوحها وهي: من لم يدخل جنة الرافعي مادخل جنة اللغة.