حين قرأت بعض الرسائل التي كتبها موظفون انهيت خدماتهم او احيلوا الى التقاعد ، او اخرين صدرت قرارت بنقلهم من اماكن عملهم الى اماكن اخرى , قلت في نفسي : نحن امام ظاهرة مفزعة حقا , ويجب ان نلتقط رسائلها ونفهمها , ليس فقط لان هذه الرسائل تعبر عن شعور اصحابها بظلم وقع عليهم , وليس لانهم تعمدوا اشهارها ونشرها على الملأ , وانما لانها ايضا تعكس حالة من التمرد على ما الفناه في مجتمعنا من صمت والتزام بالمقررات الرسمية حتى ولو كان فيها بعض الظلم , كما انها تسجل تجاوزا لقنوات اخرى ( عشائرية او قانونية ) كان يمكن ان تستخدم لانتزاع الحقوق حتى ولو كانت هذه القنوات غير مضمونة . ربما يعتقد البعض ان هذه الحالات المتكررة التي خرج فيها “ الموظف “ العام عن صمته , وكشف ما يعتقد انه صواب كان نتيجة طبيعة لاسترداد الوعي بالحقوق , وعدم قبول للقرارت الخطأ , وانها جاءت في سياق ما شهدناه في السنوات الخمس الماضية من “ صحوة “ شعبية استدعتها المخاضات التي مر بها عالمنا العربي , هذا صحيح بالطبع , لكن الاهم منه هو ان الذي دفع هؤلاء الموظفين ( دعك من الناس بشكل عام ) الى الجهر بالسوء يتعلق بحالة اليأس التي وصلوا اليها , حيث ان انسداد الابواب المشروعة امامهم لانتزاع حقوقهم جعلهم يقفزون من الشبابيك , ويتحررون من ابسط “ الاخلاقيات “ الوظيفية التي تعلموها , ومع انهم يدركون ان الثمن الذي يمكن ان يدفعوه ربما يكون باهضا , الا انهم غامروا بكل شيء , وكأنهم لم يجدوا امامهم سوى منطق “الانتقام “ , فما دام انهم خسروا فلا بأس ان يخسر الذين تسببوا في الحاق الاذى بهم ايضا . بصراحة انا لا اعرف على من الحق : على الموظف الذي شعر بالظلم فاعلن ذلك على الملا بصورة غير مألوفة ام على المسؤول الذي تسبب في ذلك ,ما يهم هو خطر هذه الظاهرة على مؤسساتنا وما تلحقه من اساءة بها ، ثم ما تعكسه من مزاج شعبي مضطرب ،نتيجة احساس عميق لدى البعض بغياب العدالة , وفقدان الثقة بالقانون , والاخطر من ذلك تصاعد حالات التمرد على كل التابوهات القديمة , وكسر عصا الطاعة ,. وكلها تؤشر الى نهاية عصر الخوف من رفع الصوت , حتى لو كانت النتائج سلبية , وبداية عصر الجهر بالسوء حتى لو كانت المظالم غير صحيحة . افهم كل ذلك , بالطبع ، ولا يخطر في بالي ان الوم هؤلاء الذين كسروا حاجز الصمت , رغم انني لا اوافقهم على ما تضمنته رسائلهم من اتهامات وتجريحات , ولا حتى على مبدأ اشهار الرسائل ونشرها في وسائل الاعلام , الا اذا استنفدوا الوسائل الاخرى المشروعة , لكن ما لا افهمه ولا ابتعله ايضا هو اجراءات بعض المسؤولين ومقرراتهم التي دفعت هؤلاء الى الاحتجاج بهذه الصورة , ثم صمت الدولة بمؤسساتها عن اخطاء المسؤولين وعدم محاسبتهم عليها , او عدم انصاف من لحق به ظلم لكي يطمئن لوجود قوانين تحميه , وتعيد اليه حقه اذا تعرض لاي انتهاك . ابسط ما يكن ان نفعله هو معاقبة هؤلاء الذين خرجوا عن “ الخط “ او اهمال رسائلهم والتقليل من شأنها , لكن من قال ان المشكلة فيهم وليست في مقررات ربما تكون خاطئة , وربما شملت غيرهم ممن لم نسمع صوتهم بعد, ومن قال ان المشكلة لن تتصاعد حين يجد الاخرون انفسهم امام احساس بالظلم فيندفعوا الى فعل ما فعله هؤلاء , وربما اكثر من ذلك , وعندئذ سنكون امام ظاهرة صادمة لن تقتصر على الموظفين الصغار وانما على كبار الموظفين ايضا ثم تمتد الى المجتمع . كنا فيما مضى نتحدث عن تراجع اخلاقيات الوظيفة العامة , وعن هيمنة منطق الشطارة والنهب وانتشار الواسطة والمحسوبية , وغياب النموذج عن مواقع العمل العام , الان نضيف لذلك كله رسائل “الانتقام “ التي تخرج من داخل المؤسسات باسماء اصحابها , للاحتجاج على قرار عزل او نقل او تأديب , وهذه لا تكشف فقط ظلما وقع على موظف , او خطأ ارتكبه مسؤول , وانما تعكس حالة اقتصادية واجتماعية وسياسية معقدة , لها اسبابها ودوافعها ، ولها نتائجها الخطيرة على امننا الاجتماعي والوظيفي , وعلى سمعة الادارة في بلادنا ايضا . الدستور