«أنظر ها أمامنا فلاحة ذاهبة للعمل في حقلها، ربما كان اسمها ماريا. هي سعيدة لأن زوجها كان من اللطف بحيث أهداها عقداً من الصدف. أو ربما هي حزينة لأنه عذبها بغيرته. فما الذي نعرفه أنت وأنا عنها؟ فقط أن هناك إمرأة تدعى ماريا حزينة. هذا ما سوف نقوله قبل أن نكف عن التفكير في الأمر. وها هنا فلاحة أخرى تجرّ حمارها المحمل بالخضروات ذاهبة به إلى ميلانو. إنها غاضبة لأن الحمار بات من التقدم في العمر إلى درجة أنه لم يعد يسير إلا ببطء (...) لقد حان الوقت لي كي أصبح امرأة عادية. ربما بات علي أن اختفي لأصبح مجرد شاغلة دانتيلا في المدينة، أو مدرّسة في مدرسة للبنات أو حاجّة تتوجه إلى القدس... يمكنني أن أكون نساء كثيرات. سعيدات أو بائسات، لا يهمّ...». المرأة التي تقول هذه العبارات هي مغنية الأوبرا الشهيرة في واحدة من الحكايات الغوطية التي جمعتها كارين بلكسن في هذه المجموعة القصصية التي تعتبر، إلى جانب «خارج أفريقيا» من أشهر أعمالها. صحيح أن ما لدينا هنا سبع حكايات لكن تأمّلها معاً يجعلنا نلاحظ أنها تبدو حكاية واحدة متعدّدة المواضيع والشخصيات، حكايات تتسم برومانسية ليلية مدهشة وتحضر فيها شخصيات تتأمل حالها وأحوال العالم. شخصيات تمتلئ بتلك الغرابة المقلقة ومع هذا تتبسط أمام القارئ وكأنها تعيش معه علاقة قديمة وأليفة. > في هذه القصص المحبوكة بشكل استثنائي، تصوّر لنا بلكسن العالم كما استحوذت هي عليه وكيّفته على مزاجها. عالم تذكرنا بمدى بساطته وغرابته في آن معاً إذ يمتلئ بالنزل الريفية الصغيرة حيث أمراء قدامى يتعشون على ضوء شموع متراقصة يتأملون العالم متفلسفين من حوله قبل أن يخوضوا في ما بينهم مبارزات قاتلة، وبالدروب التي تعطيها أشعة الشمس الساطعة لون بياض مدوخ تقطعه عربات تخبّ أحصنتها ناقلة عشاقاً يبحثون عن الحب، وبعش حمام يجبر طوفانٌ «كاردينالا» وسيدة عجوز على اللجوء إليه ليتبادلا الحديث قبل أن يتبين أن الكاردينال ليس أكثر من ممثل مزيّف قاتل، وقبل أن تبتلع الماء الاثنين. بفتيات متنكرات في زي فرسان وناس من أسفل السافلين لا يتقاسمون أسرارهم إلا مع قردتهم. وبيوت فخمة عريقة منها واحد في السينور - مدينة هاملت الدنماركية - فيه أختان تمضيان الليل تتناجيان مع شبح شقيقهما الراحل... كل هؤلاء الأشخاص وهذه الأشياء تعيش حياتها الخاصة في قصص كارين بلكسن متنقلة من مكان إلى مكان عابرة المدن والقارات وكأنها تتنزه في حديقتها الخاصة أو في حديقة عامة... إنه عالم فريد وشديد الخصوصية يخلقه قلم هذه الكاتبة. عالم تدور في أجوائه، كأحداث يومية عادية لا أكثر، أغرب اللقاءات بين أغرب الناس. ومع هذا لا رعب هنا ولا لحظات تشويق، بل ربما يمكن القول أنه عالم تنتفي فيه ملامح الخير والشر الفاقعة. صحيح أن ثمة هنا أشراراً وأناساً طيبين، لكن اللافت أن هذه السمات تشكل جزءاً من تاريخهم وتكوينهم من دون أن تنعكس في أي من أفعالهم في القصص. هم في هذه القصص يكتفون بالانتقال من مكان إلى آخر، بالتعرف إلى بعضهم البعض، بالتناقش حول شؤون العالم وشجونه. كل منهم تواق هنا إلى أن يلتقي، في عز وحدته، بأشخاص لا يريد منهم أكثر من أن يصغوا إليه وهو يروي تاريخه أو ما حدث معه، أو حتى ما يخيّل إليه أنه قد حدث معه. فالمهم هنا أن يحكي الحكاية. والمهم أن ترتسم على وجهه علامات الاستغراب إن لاحظ أن مستمعه يستغرب ما يحكيه له. إننا هنا أشبه بعالم الحكاية داخل الحكاية الذي من الواضح أن الكاتبة قد استلهمته من أجواء ألف ليلة وليلة. تلك الأجواء إلي ربما خير ما فهمته بلكسن منها أن كل شخص، بل كل شيء حتى، له جنونه وحكمته... ولديه ما يستحق أن يُحكى! > ففي نهاية الأمر، نعرف أن ما من كاتب عرف، بقدر ما عرفت كارين بلكسن، كيف يصور تلك العلاقة الغربية التي قامت دائماً بين الحكي والتوق إليه. من هنا ربما يصح اعتبار تلك «البارونة الدنماركية السوداء» - كما كانت تلقب خاصة بسبب تعلقها بأفريقيا وعيشها فيها سنوات- الوالدة الشرعية لأدب الحكي للحكي هي التي عرفت أيضاً كواحدة من أصحاب أدب «النوايا الطيبة» الذي كتبه مؤلفون بيض عاشوا الواقع الأفريقي وأحسّوه، وأحبوا الشعوب الأفريقية في الوقت الذي ظلوا يشعرون فيه أنهم غريبون عنها في نهاية الأمر. مهما يكن فإن بلكسن فان اتخذت أهميتها من خلال عفوية علاقتها بالواقع الأفريقي، ولكن أدبياً من خلال قدرتها وهي الواصفة في معظم نصوصها لانهيار الأرستقراطية في العالم، على تصوير الغرائبي بلغة اليومي. > ولئن كان الأدب الغرائبي على «الموضة» يوم كتبت كارين بلكسن «سبع حكايات غوطية» فإن الاهتمام بأفريقيا لم يكن كذلك حين أصدرت كتابها الأساسي «خارج أفريقيا» الذي حُوّل قبل سنوات إلى فيلم أعاد هذه الكاتبة الخصبة والغريبة إلى الواجهة. ولكن إذا كان هذا الكتاب يعتبر الأشهر والأكثر طرافة بين مؤلفات كارين بلكسن، فانه كان واحداً من نصوص قليلة كتبها عن القارة السوداء. أما كتبها الأخرى فقد تركزت أساساً على البعد الغوطي وعلى القصص الغرائبية التي استوحت بعضها من ألف ليلة وليلة مباشرة، كما أشرنا. واللافت في هذا الصدد أن كارين بلكسن كانت توقّع نصوصها باسم مستعار هو اسحق دنسن، وأن هويتها الحقيقية لم تكشف بشكل كامل إلا عند رحيلها عام 1962 حيث كان جلّ شهرتها يصب في ذلك الحين على كونها صديقة للممثلة الراحلة مارلين مونرو. > هنا لا بد أن نذكر أن احتكاك بلكسن بأفريقيا كان ذا أثر كبير في حياتها وأدبها، «منذ اللحظة التي عرفت فيها الأفارقة، لم يعد يخامر ذهني سوى فكرة واحدة وهي: كيف سيقيض لي أن أوائم مع إيقاع حياتهم، إيقاع الرتابة اليومية التي تعتبر عندنا زمن الحياة الميت». والحال أن كارين بلكسن، ومنذ إقامتها في أفريقيا تبدلت كلياً، حتى وإن ظلت تعامل الناس بمنطق الأرستقراطية الإقطاعية. صار همها منذ ذلك الحين أن تعثر على إيقاع جديد لحياتها، وهي قالت عند نهاية هذه الحياة أنها لئن كانت نادمة في آخر زمانها على شيء، فإنها نادمة لأنها لم تُخلق أفريقية، وأن الانضمام من الخارج إلى الإيقاع الأفريقي فيه الكثير من التصنع وأنها أمضت حياتها كلها تحمل على وجهها قناعاً أفريقياً زائفاً. فلم تعد غربية ولم تصبح أفريقية حقيقية. > ولدت كارين بلكسن العام 1885 في الدنمارك، ودرست الأدب والفن في كلية الفنون الجميلة بكوبنهاغن ثم تزوجت ابن عمها البارون بلكسن - فينيك، الذي ارتحلت معه إلى كينيا في أفريقيا منذ 1914 حيث ابتاعا مزرعة للبن وعاشا حياة لهو وصيْد ومغامرات. في 1921 طلّقت كارين زوجها وبقيت في أفريقيا عشرة أعوام أخرى كانت من أخصب سنوات حياتها، وهي تلك السنوات التي تصفها بقوة وشغف في «خارج أفريقيا». بعد سقوط أسعار البن وإفلاس المزرعة، عادت كارين إلى الدنمارك حيث انصرفت إلى الكتابة فنشرت العديد من القصص القصيرة والعديد من الروايات، بالدنماركية كما بالإنكليزية سواء بسواء، وراحت شهرتها تطبق الآفاق، في نفس الوقت الذي أحاط فيه باسمها نوع من الغموض كبير. > مهما يكن فإن الكتابة لم تكن النشاط الوحيد الذي مارسته كارين بلكسن، بل ساهمت في العديد من النشاطات الاجتماعية والخيرية لصالح الشعوب الأفريقية، وكانت سيدة مجتمع من طراز رفيع، كما كانت تمضي حياتها متنقلة بين شتى البلدان الأوروبية وإن كانت قد استنكفت عن زيارة أفريقيا بعد ذلك معلنة أن أفريقيا الرومانطيقية الإنسانية التي أحبتها وشغفت بها لم تعد ذات وجود. ومن بين كتب كارين بلكسن التي تضم نصوصاً تشغف بالشرق وبالغرابة وتنم عن هوسها المطلق بألف ليلة وليلة إلى جانب «سبع حكايات غوطية» (1937)، «حكايات الشتاء» (1942) و «ظلال على العشب» (1960)، و»عشاء عند بابيت» إضافة إلى كتابها الأساسي عن أفريقيا.