تتشكل البيئة الفكرية عادة على فضاء جغرافي محدود لمجموعة من الناس ، وذلك بتراكم كل ما يؤثر على فكر الإنسان في هذه الرقعة الجغرافية من عقيدة وثقافة وتاريخ مشترك ، وكذلك تراكم القناعات الاجتماعية من عادات وتقاليد وغيرها لهذه المجموعة تراكمت عبر الزمن واستقرت في عقول وأذهان بل ووجدان هؤلاء الناس ، ما يحدد شكل ومضمون بيئتها الفكرية عن أي بيئة فكرية أخرى قد تكون بعيدة عنها أو مجاورة لها .. فكلما كانت المسافات أقرب كلما كان وجه التشابه أقرب ، فتجد تشابه في الانفعالات أو ردود الأفعال مثلا بين أفراد أو مجموعات بيئة ما تختلف عن مواقف الأفراد والمجموعات في البيئات الأخرى.. فيمكن للمتابع لهذه الأمور استنتاج أو حتى التنبؤ بما يمكن أن تكون عليه ردات فعل لفرد أو جماعة في بيئة فكرية معينة على حدث ما.. إذ أن كل هذه الأمور تتحصل بمبدأ تراكمي مستمر تخضع له هذه البيئة أو تلك حسب العوامل التي تستجد وتضاف عليها بنفس الطريقة التراكمية الزمنية .. فإذا اختل هذا التوازن بأن بعض المجموعات تحاول القفز على مراحل تطور واستقرار البيئة الفكرية ، أو بفعل الواقع الجديد من أن البيئات الفكرية في العالم أصبحت أكثر تقاربا وتداخلا.. فالتأثير أصبح يوميا ومباشرا لمن يمتلك أسباب التأثير على الآخر ، سواء من خلال كل وسائل التواصل أو الاعلام الهادفة ، أو من خلال الحملات الفكرية المنظمة والغزو الفكري لينتج عنه اضطرابات فكرية تسود بعض شرائح هذه المجموعات المتأثرة التي لم تنضج بيئتها الفكرية بعد حسب التسلسل الزمني لتهيئة هذه البيئة بشكل سليم .. ما ينتج عنه تخلي بعض أعضاءها عنها أو حتى مهاجمتها أو محاربتها لأنهم يرون في بيئة فكرية أخرى نضوجا أوضح يلبي رغباتهم ، فيحاولون الالتحاق بها ، إلا أنهم في الحقيقة لا يستطيعون ذلك في أغلب الأحيان ، وذلك لأنهم غير قادرين على استيعاب كل تلك الفوارق والتغييرات الفكرية والوجدانية المتناقضة في مواضع كثيرة ، فيواجهوا كل تلك الكميات من المعلومات الجديدة من البيئة الفكرية الجديدة.. فقد يفقد ذاته بل عقله أيضا نتيجة الاصطدام بهذا الواقع الفكري الجديد فيختل توازنه الاجتماعي.. إن العمل على بناء نظام فكري مجتمعي ايجابي متزن أو تطويره يحتاج إلى قيادة حركة نضوج للعقول المفكرة في البيئة الفكرية أولا ، عن طريق دعم وتثبيت الأصول الفكرية الصحيحة والعمل على توسيع الادراك المجتمعي العام ، وتكثيف نقل المعلومات المفيدة بطريقة أسهل وأجمل وتصحيح ماهو شائع بشكل إرضائي لا عنفي ، لاستيعاب القفزات الحضارية والفكرية الجديدة المتكررة .. يجب أن يهتم المهتمون بالأولويات التي تبني القواعد الحاملة للحضارة ، لا إعادة صبغ ماهو سيء ومهترأ تطيح به الرياح كلما هبت وتزيله أو قد تنقلب الطاولة على الجميع إن لم تعاد صناعة وصياغة المركب الجماعي بأيادي نظيفة وأمينة وعاقلة ومؤهلة ليتسع للجميع باستمرار وبإيجابية قبل أن تشقه تيارات العواصف التدميرية والتي لا تلاءم قدراته التغييرية .. إن صلاح البيئة الفكرية هو أهم عنصر مساعد لاستثمار الأفراد والجماعات فيها في تقوية عنصر المنافسة الإيجابية والإبداع ، تحت ظل حرية التفكير والتعبير ضمن استراتيجية جماعية لتشجيع حالة المشاركة الايجابية لا المغالبة القسرية ، وهذا مايؤدي بالضرورة لتحولات فكرية إيجابية تغير من شكل ومضمون البيئة الفكرية ذاتها ، أي يؤدي لتحويلها تدريجيا إلى مناخ فكري ملائم يستمد منه الجميع قوة نشاطهم الفكري.. فالبيئة الفكرية الناجعة تمثل مخزونا ثقافيا كبيرا تنهل منه الأجيال مفاهيم الحياة الإيجابية ، لتكون أكثر جاهزية لتحمل المسئوليات السامية في العمل الحضاري والإنجاز لتشع المجتمعات بذلك ابداعا ، فيتغير مفهوم العمل من البحث عن المناظر والمفاخر والكراسي والدوائر إلى الانتقال إلى ساحات العلم والمعرفة والإنتاج والبناء الذي ليس له حدود ، ليكون قادرا على مواكبة تقدم الأمم ؛ بل المساهمة في بناء الحضارة الإنسانية من جديد وقيادتها ، بدلا من هذا الاستسلام الخطير لكل ما يتعب العقل لشرائح واسعة من المجتمع.. لكن هناك أيضا شريحة هامة لا يجب إغفالها تستطيع القيام بهذا الدور وغيره إن تلاءمت البيئة الفكرية والسياسية مع طموحاتها وأهدافها وقدراتها التغييرية الإيجابية ، انطلاقا من تحمل مسئولياتها تجاه المجتمع بكل ما تتمتع به من تأهيل علمي وغيرة اجتماعية وقدرات وطاقات إبداعية هائلة .. فالبيئة الفكرية الحضارية هي وحدها المرآة التي تعكس سلوك ومستوى المجتمعات ، وهي من تحدد مكانة مجتمع ما بين الأمم من خلال صوته الفكري هناك.. كل التحيات د. محمد خيري آل مرشد