جاء ميثاق جامعة الدول العربية متأثراً بميثاق عصبة الأمم فوصلت إليه عدوى قاعدة الإجماع في القرارات المهمة والتدابير ذات الطابع المؤثر على الدول الأعضاء في الجامعة التي سبق ميثاقها قيام الأمم المتحدة، وانعكست قاعدة الإجماع على التفكير السياسي العربي في العقود الأخيرة، فأصبحنا أسرى الالتزام بإجماع الدول العربية على أي من قراراتها وتلك مشكلة حقيقية نحسب أنها عطلت العمل العربي المشترك وجمدت إلى حد كبير حيوية الديبلوماسية العربية في اتجاهاتها المختلفة، ولننظر حولنا لنرى كثيراً من التجمعات الدولية والإقليمية التي لم تأخذ بضرورة الإجماع في قراراتها أو مواقفها، فهل أجبر الاتحاد الأوروبي إحدى الدول الأعضاء على الالتزام بغير ما تريد بدعوى أن هناك إجماعاً حول هذا الرأي أو ذاك؟ فالتوافق هو تجسيد لروح العصر وإعطاء مساحة من الحركة أمام الدول الأعضاء في التنظيم الدولي بينما سقطنا نحن العرب في بحيرة الإجماع الضيقة وقيدنا أنفسنا بغير مبرر وخضعنا دائماً في مسيرة العمل العربي المشترك للحد الأدنى ولم نسمح بالانطلاق وفقاً لسرعات قومية قد تتمكن من جر قاطرة العمل العربي المشترك إلى الأمام، ولعلنا نبسط الأمر في النقاط التالية: أولاً: إن المتابعة التاريخية لمسار الاتحاد الأوروبي سوف تكشف درجة المرونة التي اتصفت بها المراحل المختلفة لتكوين ذلك الاتحاد منذ أن كان تجمعاً لاتحادات الحديد والصلب مروراً بمرحلة السوق الأوروبية المشتركة وصولاً إلى الاتحاد بمؤسساته الحالية، وسوف ندرك دائماً أن قيام الاتحاد الأوروبي اعتمد دائماً على فلسفة اختيارية لا تجبر أحداً على الانضمام إلى مؤسسة اتحادية معينة بل تترك الخيار لكل دوله التي هي أدرى بظروفها والتي تدرك قدرتها الحقيقية على اللحاق بقطار الاتحاد في إحدى محطاته وليس بالضرورة في محطته الأولى. لم يجبر الاتحاد الأوروبي أي دولة تقدمت إليه بأي نوع من الإكراه بل ترك الأمر للإرادة الوطنية لدى كل شعب أوروبي حتى يتم تحديد ملامح المستقبل، فهناك دول في الاتحاد الأوروبي انضمت إلى اتفاقية شنغن وأخرى تحفظت عليها، ودول قبلت بالعملة الأوروبية الموحدة (اليورو) وأخرى فضلت الإبقاء على عملتها التاريخية لأسباب قومية وأخرى اقتصادية، ولعل النموذج البريطاني الذي يحتفظ بعملته الأصلية (الإسترليني) ولم ينضم إلى الاتفاقية الأوروبية الموحدة لتأشيرات الدخول (شنغن) هو خير دليل على غياب ضغوط الاتحاد على دوله لقبول الحد الأقصى من الإجراءات المرحلية التي وصل إليها، ولقد تابع العالم بأسره ذلك الجدل الذي دار داخل الجزيرة البريطانية لتحديد البقاء في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه، وهو جدل يذكرني بما عاصرته في لندن في مطلع سبعينات القرن الماضي حول انضمام بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة من عدمه، إذ أن لدى البريطانيين نعرة تاريخية تجعلهم يشعرون أنهم مختلفون عن القارة الأوروبية وأن بلدهم يمثل وحدة متميزة كانت ذات يوم إمبراطورية عظمى لا تغرب عنها الشمس كما يقولون. ثانياً: لقد ابتليت جامعة الدول العربية عبر ميثاقها بما نطلق عليه قاعدة الإجماع التي كبلت حركة الجامعة وشلت إلى حد كبير قدرتها على اتخاذ القرارات في الوقت المناسب، فحتى اختيار أمين عام الجامعة جرى العرف على أن يكون بالإجماع من خلال التوافق العام بين كل الأعضاء، ولقد مررت شخصياً بتجربة في هذا الشأن عام 2011 حيث عزفت الدول الأعضاء عن القبول بعملية التصويت بدعوى أن أعراف الجامعة لم تأخذ به في اختيار الأمناء العامين السابقين، على رغم أن ميثاق الجامعة لا يتعارض مع ذلك بل ويجيزه، ولكننا مغرمون في العالم العربي بالشكل البراق والعموميات المظهرية من دون إبداء الآراء الواضحة أو اتخاذ المواقف التي تعكس الإرادة الحقيقية لكل قطر عربي. لذلك التزم العرب بالجمود أمام أقل السرعات ولم يتفقوا على القبول بأعلى السرعات وهكذا كبل أيدي العرب بقيود لا مبرر لها ولا جدوى منها، ولقد شهدت في القمة العربية التي عقدت في القاهرة في آب (أغسطس) 1990 كيف جرى التصويت لإعطاء غطاء من الشرعية العربية لقبول قوات أجنبية لتحرير الكويت بعد غزو صدام حسين لها، وقبل القادة العرب يومها مبدأ التصويت لأنه كان قراراً يتصل بتدابير ذات طابع عسكري وبُعدٍ استراتيجي لدولة حاول صدام إخراجها من الجغرافيا لتبقى في ذمة التاريخ، والملابسات بعد ذلك معروفة والنتائج لا تخفى على أحد. ثالثاً: لدينا في العالم العربي اتفاقية للدفاع العربي المشترك منذ أكثر من ستة عقود ولكنها لا تعدو أن تكون حبراً على ورق من الناحية الفعلية إذ ترتبط أيضاً بإجراءات للتكامل الاقتصادي الذي يستحيل تطبيقه في ظل الظروف العربية القائمة، إذ أنه إلى جانب تفاوت السرعات فإن هناك عيباً هو التفاوت في الثروات على نحو صنع أجواءً حذرة في المناخ العربي العام خلال العقود الأخيرة، وعندما فكر العرب في إيجاد قوة عربية مشتركة حكمت تلك المحاذير المناخ العام بأجوائه الملبدة بالغيوم السياسية والخلافات الحدودية على نحو عطل ظهور تلك القوة حتى الآن. رابعاً: إننا نطالب بأن يكون هناك إحساس عميق بقبول تقدم قوى عربية ولو على حساب الاصطفاف العربي الشكلي الذي أظن أن لا جدوى منه، فإذا كانت مصر والسعودية والإمارات والجزائر والمغرب والأردن قادرة حالياً، وهذا افتراض بحت، على المضي كقاطرة تشد الوضع العربي العام بعد سنوات الربيع العربي فلا بأس من ذلك على أن تلحق بها قوى عربية أخرى عندما تتيسر لها ظروف تدفعها نحو القاطرة العربية التي تمر وسط ركام المشكلات وتلال الأزمات خصوصاً في عالم ما بعد ثورات الربيع العربي، وجدير بالذكر أن ذلك لا ينتقص إطلاقاً من المفهوم القومي للعلاقات العربية - العربية ولا ينال من التطلع نحو حلم الوحدة والمضي في طريق إصلاح جامعة الدول العربية ومواجهة الكوارث الحالية في سورية والعراق واليمن وليبيا وغيرها من الأقطار العربية التي تأثرت بالموجات الإرهابية في السنوات الأخيرة حيث حاولت جماعات متطرفة استثمار مناخ الربيع العربي لتحطيم أقطاره وضرب مقومات الدولة الوطنية على امتداد ساحة العالم العربي كله. خامساً: إذا قرر طائر عربي أن يغرد خارج السرب لأسباب تتصل بظروفه أو ارتباطاته الخارجية أو خضوعه لمؤثرات معينة فلا بأس أن يفعل ذلك شرط ألا يكون خروجه عن السرب العربي المحلق خصماً منه أو إعاقة له بل ينبغي أن يظل كما كان دائماً جزءاً لا يتجزأ من الأسرة العربية التي قررت أن تعطيه مساحة من حرية الحركة في الإطار القومي العام على ألا يكون في حركته شبهة عداء للروح العربية وثوابتها التاريخية مع فهم مشترك لطبيعة المعوقات والتحديات والضغوط التي تحيط بالفضاء العربي من كل اتجاه. سادساً: إن العروبة ليست شعاراً نظرياً ولكنها يجب أن تتحول إلى واقع اقتصادي وسياسي وثقافي يشعر به المواطن العربي في كل مكان، فالعروبة كما قلنا من قبل ليست رداءً نلبسه حين نريد ونخلعه حين نشاء ولكنها فوق ذلك وقبله اتفاق ضمني مشترك صنعه التاريخ ودشنته الجغرافيا، فالسرعات المختلفة لا تنال من ثوابت الأمة ولا جوهرها القومي، فالعرب فضلاً عن المشترك الثقافي والشعور القومي هم دول متجاورة في بقعة استراتيجية شديدة الأهمية والحساسية في ذات الوقت، وهم محاطون بدول غير عربية سواء في غرب آسيا أو شرق أفريقيا وشمالها، فالرابطة القومية لا تتعارض مع انطلاق دولة أو أكثر في اتجاه إصلاحي لا ينتظر بالضرورة القوى البطيئة في المنظومة العربية. سابعاً: إن جامعة الدول العربية وهي تستقبل أميناً عاماً جديداً سوف تتوجه بالضرورة نحو برامج إصلاحية تصل إلى هيكل المنظمة وإعادة النظر في فلسفة وجودها على ضوء المتغيرات القائمة والأفكار السائدة والمستجدات الوافدة في العقود الأخيرة، فالتركيز على الجوانب الثقافية والاقتصادية لا يقل أهمية عن التنسيق السياسي والعسكري، فلقد تغيرت الدنيا وتبدلت الأحوال دولياً وإقليمياً ولم يعد في مقدور العرب أن يظلوا في مقاعد المشاهدين يبكون على اللبن المسكوب ويجترون سلسلة النكبات والنكسات والكوارث أحياناً ويتغنون بالأمجاد والأشعار ويرددون أبياتاً من ديوان الحماسة في كل مناسبة، فليهرع العرب لأنهم في سباق مع زمن يجري وفرص تفلت ومستقبل يضيع! لقد حاولنا في السطور الماضية أن نطرح مسألة السرعات المتفاوتة في حياة الأمم والشعوب وأجرينا لها تطبيقاً على الواقع العربي لعله يكون مفيداً في تحريك الشعور القومي نحو النهوض بالتعليم والاهتمام بالبحث العلمي والارتقاء بالحياة العربية في كل مكان حتى يعود إسهامنا في حياة العصر أمراً معترفاً به لا ينكره عدو أو صديق. * كاتب مصري