جدة: وائل أبو منصور توقف الزمن في منطقة البلد التاريخية لعشرة أيام. كل الطرق والأحاديث كانت تبدو كأنها تقودك في اتجاه النسخة الأولى من «مهرجان جدة التاريخي»، الذي أطفئت أنواره السبت الماضي وسط إقبال كثيف تجاوز 750 ألف زائر. إلا أن عصر الأحد الماضي، وبعد أقل من يوم على نهاية المهرجان، ذاع خبر مؤسف اعتادته منطقة البلد التاريخية في السنوات الماضية: «انهيار منزل مكون من دورين وملحق كان يخضع لأعمال ترميم بباب شريف في منطقة البلد دون تسجيل إصابات أو خسائر في الأرواح». في ضفة أخرى، عند «باب جديد»، البوابة التي دشنت مطلع العهد السعودي كآخر البوابات الثماني حول سور جدة التاريخية، بدأ مسار طويل ومتعرج اخترق الحارات القديمة، الشام والمظلوم واليمن والبحر. على جنبات المسار، كانت فعاليات «مهرجان جدة التاريخي» الثابتة مثل مركاز العمدة والبيوت التاريخية والمتاحف والمقاهي الشعبية والدكاكين، أو المتنقلة مثل الفرح الحجازي وعربة السقا والعسس والباعة المتجولين الذين صدح صوت أحدهم بين الأزقة مسوقا لبعض الحلوى: «هنا جرب ودوق.. مزاجك يروق». حراك جديد، هدفه فتح صفحة جديدة مع جدة التاريخية وتحقيق حلمها المؤجل بالانضمام إلى قائمة التراث العالمي. توضح الخريطة التي اطلعت عليها «الشرق الأوسط» أن «جدة التاريخية»، حسب التسمية المعتمدة في ملف التقديم لليونيسكو، ستضم مساحات كبيرة من حارات الشام واليمن والمظلوم ومساحة صغيرة من حارة البحر، وما تبقى من مساحة الحارات الأربع سيشكل منطقة (Buffer Zone) أو الخاصرة والمحيط الحيوي لموقع جدة التاريخية. وأوضحت الشركة الفرنسية «RC HERITAGE» التي أعدت ملف «جدة التاريخية» إضافة إلى ملفي «مدائن صالح» و«حي طريف في الدرعية» التاريخية في موقعها على الإنترنت، أنها استندت في إعدادها الملف إلى جهد Jean - Louis Luxen، الباحث البلجيكي الذي اشترك في إعداد الخطة الإدارية (Management Plan) بالشراكة مع الهيئة العامة للسياحة والآثار وأمانة محافظة جدة ومستشاريها الدوليين لوضع الخطوط العريضة لكيفية المحافظة على «جدة التاريخية» من الجوانب الاقتصادية والتنظيمية والتنموية. أكثر من 49 فعالية تخطفك بعيدا في الزمان والحنين، شكلت معالم «مهرجان جدة التاريخي»، بدأ الاستعداد لها بحسب زكي حسنين، المدير التنفيذي للشركة المنظمة للمهرجان، قبل 40 يوما من تدشينه. حسنين الذي اعتمر العمامة «الحلبي» الصفراء طيلة أيام المهرجان، أضاف لـ«الشرق الأوسط»: «لم نكن نستطيع إنجاز عملنا في الموعد لولا دعم ومتابعة الجداوي الأصيل محافظ جدة الأمير مشعل بن ماجد الذي سهل لنا احتياجاتنا كافة ليظهر المهرجان في أفضل صورة»، وأضاف: «تفاجأنا بكثافة الإقبال، ولكن الأهم أن المهرجان مضى بسلام دون أن يسجل حادثة واحدة». أما شعار المهرجان، فجاء معبرا عن مزاجه العام: «كنا كدا»، عبارة كلفت استشاري المهرجان «مقعد جدة وأيامنا الحلوة» كثيرا من الوقت والتفكير. المقعد، الذي بدأ منذ سنة ونصف السنة كحراك مدني وحصل أخيرا على ترخيص من الهيئة العامة للسياحة والآثار، لم يكتف بصياغة عبارة المهرجان، بل خرج أيضا بفكرة ورؤية الأوبريت الغنائي المسمى «خير البحر»، في حفل الافتتاح الذي دشنه في 16 يناير (كانون الثاني) الماضي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، برعاية الأمير مشعل بن عبد الله بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة. وهنا، يوضح منصور الزامل، أحد خمسة أعضاء مؤسسين للمقعد، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن اسم «خير البحر» يمثل رواية مضادة لأي انتقاص قد يصدر من البعض تجاه إنسان المنطقة وخلفيته الاجتماعية وإرثه الحضاري. قصة نجاح المهرجان بكل تفاصيلها، المروية وغير المروية، ما هي إلا جهد صغير ضمن جهد أكبر يتمثل في انضمام «جدة التاريخية» لقائمة التراث العالمي. ويؤكد الزامل بنبرة واثقة: «لو شاهدت بعض المواقع المسجلة في قائمة التراث العالمي ستكتشف أن جدة التاريخية أكثر جمالا وعراقة من بعضها وأنها تستحق أن تكون ضمن القائمة». ويعزو الزامل الإقبال الكثيف من الجمهور على المهرجان إلى «الشغف والتعطش» للمنطقة التاريخية، وهو ما بدا واضحا من مشاهد الزحام والاصطفاف في طوابير طويلة لحضور فعاليات «الستاند أب كوميدي» أو لمشاهدة مقتنيات البيوت التاريخية، بأغلبية واضحة لفئة الشباب، حاملين هواتفهم الذكية وكاميراتهم الاحترافية لتوثيق ما تبقى من الإرث القديم، الذي تلاشى إما بفعل الإهمال أو التوسع العمراني أو تداخل المرجعيات الإدارية. إلا أن جهود الهيئة الأخيرة في المحافظة على التراث في المملكة العربية السعودية إجمالا، وإعداد ملف «جدة التاريخية» تحديدا جاءت مطمئنة، أكدها تصريح الأمير سلطان بن سلمان لوكالة الأنباء السعودية في 15 يناير الماضي بقوله إن «مرحلة إهمال جدة انتهت». فالمحاولة الأولى لضم «جدة التاريخية» إلى قائمة التراث العالمي كانت في 2010، عندما قدمت الهيئة ملف الانضمام ثم سحبته بعد توصية المجلس الدولي للآثار والمواقع (الإيكوموس)، المنظمة العالمية غير الحكومية المرتبطة بـ«اليونيسكو» التي تستقبل ملفات الانضمام كمرحلة أولى قبل إدراجها للتصويت في اجتماع «اليونيسكو». وجاء في توصية «الإيكوموس»: «إن ما تبقى من المواقع الأثرية لا يمتلك الخصائص الكافية التي تدل على قيمتها التاريخية، ورغم الجهود الرسمية للحفاظ عليها فإن ضغوط التطوير العمراني حالت دون ذلك»، بحسب ما أوضحت «اليونيسكو»، في تعقيب تلقته «الشرق الأوسط» عبر البريد الإلكتروني. أما المحاولة الثانية والأخيرة في 2013، فقدمت ملفا متكاملا وحققت مطالب الانضمام. ويوضح الزامل: «ثمة سلبيات واضحة في (جدة التاريخية) تتحملها جهات عدة، وعملت الهيئة العامة للسياحة والآثار على تغيير هذا الواقع لأن متطلبات الانضمام إلى القائمة كثيرة، ومن ضمنها أن يكون للمنطقة شعار ومسار محدد وفعاليات، فكانت فكرة الأمير سلطان بن سلمان بتنظيم المهرجان»، إضافة إلى إنشاء بلدية خاصة بجدة التاريخية، وترميم بعض البيوت للمحافظة على قيمتها التاريخية، وتعزيز التنمية الاجتماعية الاقتصادية. وهذه الأخيرة دفعت سالم باجنيد، أحد المبادرين الاجتماعيين الشباب، إلى المشاركة في المهرجان من خلال تأسيس «سوق المقايضة» الذي دشنه في المهرجان «كمنصة اجتماعية غير ربحية لتبادل السلع والخدمات والمعرفة». لا يتمنى باجنيد في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن تتحول جدة التاريخية إلى مشروع عقاري تطويري آخر، ويخشى أن يجري «تسليع المنطقة التاريخية وجعلها سوقا معولمة على حساب مشاريع نامية من داخلها». لكن المهرجان الأخير لم يغفل عن ذلك باستعانته بشباب وأطفال المنطقة، سواء في التنظيم أو الإرشاد السياحي أو الفعاليات أو المسرحيات المتنقلة، إضافة إلى إتاحة المجال للأهالي والأسر المنتجة بالبيع في مواقع مخصصة، بحسب الزامل. أما حسنين، فأكد أن «الكل عمل فلوس» بحسب تعبيره، مضيفا في سعادة: «بعض المخابز أكدوا لي أنهم باعوا بشكل غير مسبوق، وكذلك متاجر الحلوى والعمائم». لكن متاجر الجملة التي تشكل النسبة الأكبر من متاجر جدة التاريخية جاء المهرجان غير مرض لطموحاتها التجارية، وهو ما أكده العم عبده تاجر قماش بالجملة في سوق جامع الواقع ضمن مسار المهرجان، بقوله «الناس تدخل وتتفرج ثم تمشي، رغم قدرتي على إيصال البضاعة إلى سياراتهم».