هذه المجموعة القصصية التي كتبت بين عامي ١٩٧٥ -١٩٨٠ ونشرت عام ٢٠١٠ في طبعة أولى عن دار الجمل، أشبه بملحمة بطلها الجوع الذي يأتي بأشكال وصور مختلفة، فتارة نراه فتى ماسحا للأحذية يستحضر وجه أبيه الذي سقط كعود ثقاب تحت أنابيب الغاز العملاقة، وتارة جسدا يغوبش وينكمش كقنفذ يصارع الفقر الدنيء، أو باحثا عن كاتيا التي تتأهب لها الخناجر المسمومة. يا لطيف فرغت كل دموع كريمو وهو يتذكر أباه وأخته حياة، ويمسح شارعا طويلا بعينيه حالما بأن يكون رجلا في أوطان أطفالها هم رجالها، ورجالها هم الريح. يحلم بأن يكون طائرا سأنشر أجنحتي البيضاء فوق كل الأشياء الجميلة، وأفقأ كل العيون التي تذبحنا يوميا بنظراتها عيون الشبع والحلوى والذئاب تتربص به في سرير أمه. في القصة الأولى تطير الأحلام من عيون الطفلة البحرية، هي تريد صندوقه السحري وهو يريد بقايا قطعة الحلوى المأكولة.. هي تريد سد شره الرغبة بالتملك وهو يريد فقأ عيون الجوع.. و الرغيف الذين يشتريه دينار، هو الذي يتحول إلى شبح يطارد طيور الهجرة وأسماكها الملونة.. في قصة أخرى القلب مستنقع يعج بالذهاب وفي جسده يتمدد غبي من الأغبياء في باريس الجنة الموعودة أو كما يتصورها في زمن الكوارث المريضة. جئنا بحلم وها نحن نعود بجثته هو هم الغربة الكبير يتمدد تحت الجلد حتى يفقع المرارة في قاعات الانتظار العاجة بالحقائب، وكل حقيبة بجبل من القصص. عن هذا المهاجر تحكي القصة، وكأنها تعيد نفسها، تعبر الزقاق الضيق وتسقط وراء البنايات العالية كشمس.عن هذا المهاجر الطريدة في بلده وفي منفاه الاختياري أو القسري. قصة عن حرب تأكل وشعب يموت عن ذاكرة مختبئة في عباءة أمه الممزقة وهي تجوب الأسواق الشعبية ثم وهي ترعى الأغنام. كابوس جديد ينتزعه من لوعة الفقر إلى ظلمة السجن، تهمته أنت خطر على باريس في عالم لا يحتاج إلى ذنب ليشير إليك سجانوه بأصابع الانتقام. تساقطت باريس من عينيه فحتى الجنة الموعودة ما هي إلا حطام امرأة ثقيلة متعبة حتى النخاع. المرأة في هذه القصص مهزومة، المرأة الأم أو الأخت الميتة أو الطفلة الطامعة أو الحبيبة الكسيرة، تقف على خط المواجهة وفي خارطة الحرب التي شوهت العطر في رغبة أنثى. في باريس التي تعاني العري والجوع تقلصت كل الأحلام في ليل الهجرة الطويل. في باريس مقبرة العشاق أما في قصة الجري وراء نجمة البحر يحمل وجهه في كفه مختوما بالحزن، ويسحب جسده الجائع اعتقد أنه جوع معنوي أكثر من أنه نداء، بل هو صرخة نابعة من العظام النحيلة تحمل الطنين وتدب مع الآلاف كل يوم من أجل اللقمة والدفء. كما تعود صورة الأب إلى السطور، هذا الذي مات متفحما، تراه هنا ممزقا على الحائط، وفي سياق آخر مات واقفا كنخلة.. ولكن ماذا عن تلك اللحظات التي تقبض عليها الذاكرة بإصرار، قبلة للصوت المخبوء في هدهدة الليل، وأخرى للعينين قبل الرحيل عن تربتهامتعبا وجهك كان، مغلقا عمري كان، والتقينا ذات ليلةو رغم أن الوطن يسرق الحب والسكينة، إلا أن الهجرة تسرق العمر وتبعثره في المطارات والشواطئ والمدن الدهرية. وراء الزجاج، كانت الطيور تهجر ساحات المدينة، والأمطار ثقيلة تتلون بلون هذه الشوارع الشتوية. ورفضي يسكن صدري، يضم إليه أشعار المتنبي وناظم حكمت ونيرودا الذي أدلى بشهادته عن الحياة في عمق القهر، وكل من باتوا منسيين في أدغال هذه المدينة، على هوامش السجون المدينة الغابة، السجن الكبير وساحة العقاب والهرب والاحلام المؤجلة، تلك المدينة التي يقطفون فيها الوجوه كثمار شيطانية، ويخطفون فيها ممارسي الغربة، أولئك الذين يحملون حلمهم حقيبة، ويدورون كالمجانين، يتصوفون تحت المطر قبيل الفجر. وتأتيه كاتيا من جوف رئتيه، متأهبة كنصل تداهمه كما تفعل لهفة الحب بالعاشق، ويعتب علىوهران مكمن السر في جل قصص هذه المجموعة ويتساءلهل تعلم وهران أنها ذبحت قلبي وأنها عبثا حاولت محو ذاكرتي وتعود المرأة، شقية صغيرة وصديقة طيبة وطفلة ترضع أصبعها.هو الحب يا صديقتي الطيبة، كالسيف يزرع في رحم العقم عمرا آخر كالوردةويطلب من امرأتهأو أرضه أن لا تحزن فالجرح يزيد الشاعر فيه جرأة والحب يزيده هزيمة وسقوطا. ويطلب منها أن لا تحزن لكل الآلام، فهناك أفراح صغيرة تولد مع الفجر. ويطلب منها أن تنتظر محاولته وإذا فشل أن تتقبل انتحاره. تستوطنه الغربة ولا يجرؤ على قرع باب الولوج إلى الحرية، امسح من ذاكرتك زرقة البحرروح المدينة التي لم تعد تنتظر أحدا. وهذا الأزرق يبدو غريبا في عينيه، يتقيأ ذكريات شطآنه، يستنزف أحلامهم ووصاياهم، ويحفر فيهم الحزن عميقا. ومنسيدي بو جنانتولد وصيةعليك الآن أن تتعلم كل شيء من جديد. أن تعلم قاتلك كيف يصبح أنسانا، ستقول له: إن الحرب انتهت وعليك أن تتفرغ لبناء أرض أصبحت رمادا وصية تقصم الروح لا بد لها من نبي يحملها. ولكن هي هل لك قدرة وأنت الذي تحمل خرائط جرحك وسقطاتك بين كتفيك؟ انت المولود بين العناكب والخنافس والحصى. أنت الذي تحمل صحراءك نذرا، وقبيلتك سيفا، وحبك هزيمة؟ بقي أن أقول لكم أن مجموعة كهذه تحتاج منكم لتأمل في سيرة واسيني الأعرج هذا الكاتب الكبير، حتى تتمكن ذائقتكم من التماهي مع هذا القدر من الحزن والتمرد، وحتى تتمكنوا من اللحاق بهذا الكم من الأساطير المولودة في قلب غابة نائمة عند بوابات البحر.