بعد أن «تفنّنت» معاول التهديم في تحطيم آثار الموصل، خرجت، كالعادة، الفتاوى الدينية بـ»تجريم الفعلة المشينة» التي ارتكبها الجاهلون حقيقةَ الدين، والمتجاهلون القيمةَ الحضارية لهذه الكنوز الأثرية. وزيادة في إبداء الأسى، قالت دار الإفتاء المصرية إن هذه الآثار «فيها عبرة بالأقوام السابقة»، مستذكرة ما حلّ بقوم عاد من هلاك، بعدما عقروا ناقة صالح، بحسب المرويات الدينية التاريخية. واستطراداً، فإن تلك المرويات تصف قوم عاد في فجر اليوم الرابع لعقر الناقة، حيث «انشقت السماء عن صيحة جبارة واحدة. انقضّت الصيحة على الجبال، فهلك فيها كل شيء حي. هي صرخة واحدة، لم يكد أولها يبدأ وآخرها يجيء، حتى كان كفار قوم صالح قد صعقوا جميعاً صعقة واحدة. هلكوا جميعاً قبل أن يدركوا ما حدث. أما الذين آمنوا بسيدنا صالح، فكانوا قد غادروا المكان مع نبيّهم ونجوا». وما يدعو إلى المفارقة في البيان الحزين لدار الإفتاء، أن ذريعته الوحيدة للإبقاء على آثار الشعوب السالفة تتمثّل فقط في جعلها «عبرة»، وهذا مقدّم على ما سواه! ومن بين ما التُقط من مفارقات في غضون الصيحات المندّدة بتحطيم آثار بلاد الرافدين، «إجماع» دار الإفتاء ومجمل علماء الدين وفقهائه على أن ما أقدم عليه «داعش» دليل على «جهله بفهم صحيح الدين»، وفق أستاذ الشريعة ونائب رئيس جامعة الأزهر السابق الدكتور إسماعيل شاهين، فيما رأى عضو هيئة كبار علماء الأزهر الدكتور أحمد عمر هاشم، أن ما جرى «خروج عن مفهوم الدين الصحيح». أما دار الإفتاء فشدّدت على أن «الآراء الشاذة التي اعتمد عليها «داعش» في هدم الآثار، واهية ومضلّلة ولا تستند إلى أسانيد شرعية». ويظهر المقطع المصوَّر الذي بثّه «داعش»، رجلاً ملتحياً يؤكد أنَّ «النبي أمرنا بالتخلص من التماثيل، وقد فعل الصحابة الشيء ذاته أثناء الغزوات». ومن الملاحظ أن «داعش» لم يعصف فقط بالمنطق العام للتفكير الإنساني السوي أو القريب من الاستواء، بل كان أشدّ عصفاً بالمنظومة الفقهية المنتسبة إلى ما يعرف بـ»الإسلام الوسطي»، التي لم تخبرنا حتى الآن ما هي مقومات «صحيح الدين»، وما هي «الآراء الشاذة» التي يمتشقها «داعش» ولا تعتمد «أسانيد شرعية». فإذا كان «صحيح الدين» ينظر إلى آثار الشعوب بصفتها «عبرة» لكي يتّعظ الناس مما حاق بالأمم السابقة، وإذا كان «صحيح الدين» في نظر الأزهر، مثلاً، يقضي بالرد على حارقي الطيار الأردني معاذ الكساسبة بأن «تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف»، فإن ذلك لا يختلف كثيراً عن «صحيح الدين الداعشي». ثم إن للقضية وجهاً آخر، إذا ما سلّمنا بأن ثمة لدى فقهاء «الإسلام المعتدل» رواية أخرى لـ»صحيح الدين»، وهي لماذا لا يُطرح هذا «الصحيح» دفعة واحدة، ولماذا ينتظر هذا «الصحيح» وفقهاؤه أن يكون في منطقة رد الفعل؟ أي لماذا لا يقدّم الفقهاء المعتدلون، كي لا نقول «المتنورين»، تصوّراتهم الكلية للدين بشكل يركّز على كيفية تنظيم العلاقة الروحانية بين الأرض والسماء، بمعزل عن الإغراق في التفاصيل القاتلة؟ إننا نقتتل على «النص» ونقتل باسم «النص»، وبه نُسبي وندمّر ونحزّ الرقاب ونشعل النار بالأبدان والكتب والتطلعات... وبالنص نفسه نصبو، داعشيين ومعتدلين، أن نكون «خير أمة أخرجت للناس»! * كاتب وأكاديمي أردني