النسخة: الورقية - دولي بعد أسابيع قليلة من اختياره رئيساً للحكومة التونسية الانتقالية، حظي السيد مهدي جمعة باستقبال رائع في واشنطن أثار الكثير من الجدل. فجمعة ليس شخصية معروفة لا عالمياً ولا محليّاً، وقد اختير لرئاسة الحكومة لفترة انتقالية يفترض ألاّ تتجاوز السنة الواحدة، وجاء اختياره نتيجة استبعاد عديد الشخصيات المشهورة التي كانت مرشّحة للمنصب، لأنّ الشهرة كانت تكشف عن الهوى السياسي لصاحبها وتشكّك في صفة «الحيادية» المطلوبة في من يرشّح لهذا المنصب. وقد أثار تعيين جمعة استبشاراً عميقاً لدى التونسيّين الذين ملّوا الطبقة السياسيّة التي تحكّمت في المشهد السياسي منذ الثورة ولم تحقّق من أهدافها إلاّ الدستور، أمّا الإصلاحات الاجتماعية، وكانت الدافع الرئيسي للثورة، فبقيت معلّقة، بل زاد الفقراء فقراً والأغنياء غنى بسبب ضعف الدولة وإشراف موازنتها على الإفلاس. ولا شكّ في أنّ الدستور مكسب كبير، لكنّه بالنسبة إلى العاطلين والبائسين لا يسمن ولا يغني من جوع. كما حظي جمعة بترحيب عالمي واسع، لا سيّما أنّ تعيينه جاء مباشرة بعد صدور الدستور الذي أعاد بعض الأمل في إحياء المشروع الديموقراطي المجهض للربيع العربي. وليس من المعتاد أن يغيّر رئيس أقوى دولة في العالم جدول أعماله ليستضيف رئيس الحكومة التونسيّة ويقابله مصحوباً بنائبه جو بايدن، ويمضي معه فترة طويلة نسبيّاً، وقد ظهر أوباما في الصور يمازح جمعة ويعامله معاملة حميمة تتجاوز قواعد البروتوكول، عدا عن أنّ الوفد التونسي فتحت له أبواب المؤسسات المالية الدولية وأكبر الشركات الأميركية، كغوغل وميكروسوفت. سرعان ما حرّكت هذه الوقائع والصور تفسيرين مختلفين يمثّلان الوجه والقفا لعقلية المؤامرة المستحكمة عربيّاً كلما تعلّق الأمر بالولايات المتحدة، والغرب عموماً. فبعضهم لا يصدّق أنّ شخصاً غير معروف يصبح فجأة رئيس وزراء ويستقبل عالمياً بكلّ هذه الأبّهة، فلا بدّ أن يكون الغرب من قاد خطاه وأوصله إلى الحكم ويحتفل اليوم بنجاح خطته، بل هناك من ذهب إلى افتراض أنّ الولايات المتحدة حسمت بذلك مستقبل تونس وأنه لن تنظّم انتخابات في آخر السنة وسيستمرّ جمعة في الحكم سنوات طويلة أخرى. بعضهم الآخر رأى في هذه الحظوة نهاية مشاكل البلد، فمن كان أوباما حليفه تتبدّد أمامه المصاعب الأمنية والاقتصادية التي أرّقت التونسييّن منذ الثورة، ويكفي أن ترفع واشنطن الحظر عن مواطنيها للسفر إلى تونس وتقدّم لها ضمانات قروض كي يتعافى الاقتصاد ويعمّ الرخاء. والحقيقة أبسط بكثير، وإذا لم يستوعبها التونسيّون بعمق فسيواصلون الهروب إلى الأوهام، بما يزيد وضعهم تدهوراً وآمالهم خيبة. أولاً، أميركا تساند تونس والتونسيّين، وهي مشكورة، لكن لا يعني أنها ستحلّ مشاكلهم، ولا أنّ أوباما يبدأ يومه بقراءة التقارير عن أوضاعهم. لقد قدّمت واشنطن ما يمكن لها أن تعطيه، أي ضمانات القروض ورفع الحظر عن سفر مواطنيها وحثّ المؤسسات الدولية على تقديم مزيد من القروض والتنسيق الأمني لمقاومة الإرهاب. لكنّ قضايا الإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي تظلّ في عهدة التونسيّين أنفسهم وهم وحدهم القادرون على حلّها، ومن دون ذلك لن ينفع الدعم الخارجي. ثانياً، استفاد أوباما من تونس مثلما استفادت منه تونس، فقد استقبل مهدي جمعة عشيّة الانتخابات الرئاسية في أفغانستان، وقد لا يعني هذا التزامن شيئاً بالنسبة إلى التونسيّين لكنّه يعني الكثير للرأي العام الأميركي وللذين انتخبوا أوباما. فتونس تسوّق أميركياً نموذجاً لانتقال سياسي مؤهل للنجاح بفضل الدعم الأميركي، لينسى الرأي العام الأميركي خيبات الانتقالات السابقة، المدعومة أميركيّاً أيضاً، وأهمّها أفغانستان والعراق. ويمكن لأوباما أن يظهر حينئذ أمام ناخبيه ومواطنيه في مظهر الرئيس الناجح، عكس سلفه جورج بوش الابن، لأنه ساند الانتقال الديموقراطي التونسي ومكّن أفغانستان من إجراء الانتخابات الرئاسية على رغم معارضة «طالبان» ومن طيّ صفحة عهد كارزاي المرتبط بالجمهوريّين، على أمل بأن تحمل الانتخابات التشريعية التي ستعقد في العراق، نهاية الشهر نفسه أيضاً، أخباراً أخرى إيجابية لصورة السياسة الخارجية الأميركية في عهد أوباما. والحقيقة أنّ هذا المشهد هو الشجرة التي تحجب الغابة، والغابة هي مصير بقية بلدان الثورات العربية المنزلقة نحو الدمار، والأهمية المحدودة لتنظيم انتخابات في أفغانستان والعراق في ظلّ الانهيار الكامل للبلدين منذ التدخلّ العسكري الأميركي في عهد الجمهوريّين. فعلى التونسييّن أن يتذكّروا أنّ الدعم الأميركي، على أهميته، لو كان كافياً، لكانت أفغانستان والعراق من أكثر دول المنطقة رخاء وديموقراطية. ثالثاً، إنّ الدعم المالي، سواء جاء من الحكومات الغربية أو من المؤسسات المالية الدولية، يظلّ مرتبطاً بالعقيدة الاقتصادية الليبرالية التي تطلب من البلد المستفيد أن يقدم على إصلاحات هيكلية، وهذا مفاده، في تونس، بأن تحدث الحكومة انقلاباً تاماً في السياسة الاقتصادية لما بعد الثورة. فهذه السياسة كانت حتى الآن سياسة «ريعية» استنفدت كلّ المدخرات المالية وبلغت حدوداً عالية من المديونية، وهي مطالبة اليوم بتقليص النفقات العامة ومراجعة الدعم للمواد الأساسية وتجميد الأجور أو خفضها، الخ. فكيف سيتفهّم الشعب هذه القرارات، والحال أنّ الخطاب الثورجي السائد منذ ثلاث سنوات قد صوّر له أنّ النظام السابق الفاسد أخفى في خزائنه أموال قارون، وأنّه يكفي أن يستولي الثوار الأبطال النزهاء عليها ويوزّعوها على الشعب كي يبلغ أعلى درجات الرخاء والسؤدد؟ لقد كانت قصّة روبن هود الكذبة الكبرى لحكومات الثورة، لكن هل يمكن أن يستفيق الشعب على الحقيقة المؤلمة ويواجهها بضرورة العمل والتضحية من دون أن تتأجّج مجدّداً حركات احتجاجية عنيفة تعود بالبلد إلى نقطة البداية؟ رابعاً، على المعارضة المدنيّة أن لا تغترّ كثيراً بتخلّي واشنطن عن الإسلاميين، لأنّ الدعم الأميركي لم يكن المحدّد الوحيد لانتصارهم في الانتخابات الفائتة، وإن ساهم في ذلك، ولأن السياسة الأميركية براغماتية ومتقلّبة دائماً، فإذا تقاطعت المصالح مجدّداً جاءت النتيجة من النوع نفسه. ثم إنّ نتائج الانتخابات تحدّدها صناديق الاقتراع، وكما توقّعنا وحذّرنا من هزيمة الأحزاب المدنية في انتخابات 2011، نكاد نبشّرها بالمصير نفسه إذا ظلّت كما هي الآن، تعمل بالوجوه والوسائل والخطابات نفسها التي قادتها سابقاً إلى الهزيمة.