×
محافظة حائل

غرفة حائل توفر 560 وظيفة للرجال في «المراعي»

صورة الخبر

في يوم من الأيام قامت قوات موالية للحكومة بطمس أغلب الشعارات المكتوبة باللغة العربية على حائط مبني من الطوب المغبر، لكن بقي البعض منها مقروءاً. حدث هذا في حي شمبات، وهي منطقة صناعية في الخرطوم يسكنها أناس من متوسطي الدخل. أحد هذه الشعارات يقول "تسقط حكومة القتلة"، وهو في مكان لا يبعد كثيراً عن موقع يقول شهود إن ثلاثة متظاهرين قتلوا فيه عندما احتشد آلاف منهم في أعلى مدرجات ستاد لكرة القدم في الخريف الماضي. وكُتب على شعار آخر: "شارع الشهيد". كُتبت هذه العلامات الكئيبة على الجدران في ذروة المظاهرات الشعبية ضد سياسات الحكومة التي رفعت أسعار زيت الطعام والبنزين إلى الضعف بين ليلة وضحاها. لقد ذهبت حكومة السودان الهشة إلى أبعد حد في قمعها المتظاهرين السلميين في العاصمة الخرطوم حتى الآن، فراحت تطلق النار على المتظاهرين وأغلقت شبكة الاتصالات العامة لمنع الآخرين من التواصل فيما بينهم، لتنسيق التحركات التالية. ومع أن القوى الموالية للحكومة تقول إن المظاهرات انتهت بسرعة، إلا أن المطالب بإنهاء وحشية النظام الموجود في الحكم منذ 24 عاماً لم تنتهِ بعد. فبعد مرور أقل من ثلاث سنوات على انقسام السودان إلى دولتين، لا يزال نظام عمر البشير حتى الآن يواجه سخطا واسعا ومتزايدا داخل البلاد. والسودانيون في العاصمة غاضبون من برامج التخصيص والأسعار المرتفعة، الأمر الذي دفعهم للخروج إلى الشوارع مطالبين بكل شيء، من تحسين أحوالهم المعيشية إلى تغيير النظام نفسه. أما جنوب السودان، الغني بالنفط، فيعاني اضطرابات أكبر بسبب تفكك الحزب الحاكم هناك، وهو وضع يهدد بنشوب حرب أهلية. وفي الأسبوع الماضي رمى نظام البشير بثقله خلف أعدائه السابقين في الجنوب، وهي من العلامات الدالة على أن الخرطوم قلقة من أن المشكلات هناك يمكن أن تزيد من حالة عدم الاستقرار في اقتصاد البلاد المريض. وعلى الرغم من المطالب الملحة بالتغيير، إلا أن دبلوماسيين يعربون عن مخاوفهم من أن أي انهيار عنيف في السودان يمكن أن يعرضه إلى مزيد من الانهيار الاقتصادي وإلى كارثة إنسانية وجيشان إقليمي. وقبل خمس سنوات تقريباً أسس نشطاء شباب يعملون تحت الأرض، حركة تهدف إلى إسقاط نظام البشير الذي تولى السلطة في انقلاب عسكري دعمه إسلاميون في عام 1989. لكن حتى هؤلاء الناشطين أُخِذوا على حين غرة بالمظاهرات المرتجلة التي انفجرت في مناطق يسكنها أصحاب الدخول الوسطى والمتدنية في أواخر العام الماضي. ويقول حجوج كوكا، المنتمي إلى"قِرِفنا"، وهي حركة شبابية تعمل تحت الأرض: "لم نكن نحن المسيطرين، وقد فوجئنا بالفعل بالمظاهرات التي اندلعت في الشوارع". المناصرون المؤيدون ضمناً للنظام يبدو أنهم "قِرْفوا" أيضاً. فإلى جانب قسم من الطبقة الوسطى وفقراء المدن، يرغب بعض أعضاء النظام نفسه وجزء من النخبة في الشركات في ذهابه أيضا. وبحسب دبلوماسيين ومطلعين على الداخل، حتى معظم الجيش لم يعد يحتمل الوضع أيضاً. ويقول أستاذ في إحدى الجامعات السودانية: "أصبح الوضع مربكاً في السودان لدرجة لم يعد فيها أحد يعرف ما الذي يحدث غداً. إنه عد عكسي، لكننا لا نعرف من أين نبدأ هذا العد، من 10 أو من 100". لكن على الرغم من مظاهرات العام الماضي، والرعب الذي نشأ في عاصمة اعتادت على تلقي عنف لا ينتهي من الدولة، ما زال النظام الجريح يحتفظ باليد العليا في الحكم. والإجراءات الصارمة التي اتخذت ضد المتظاهرين، التي يقدر أن 212 شخصاً قتلوا فيها – وإن كانت الدولة تعترف بعدد أقل من ذلك – منعت تطور المظاهرات لتصبح قريبة من حجم أي من انتفاضات الربيع العربي. وقال أمين حسن عمر، وزير الدولة لشؤون الرئاسة والعضو القوي في حزب المؤتمر الوطني الحاكم: "لقد فشلوا. وانطفأت هذه المظاهرات في ثلاثة أيام. كنا نواجه دائماً أياماً صعبة، أنا لا أريد أن أقول إن هذا هو قدرنا، ولكن هذه هي حقيقة الوضع، لن نتخلى عن مقعد القيادة لأحد أبداً". لكن النظام يواجه تحديات اقتصادية وأمنية وسياسية متزايدة. وكانت طفرة إنتاج النفط في العقد الماضي قد وفرت مبالغ بحدود 80 مليار دولار، لكن الاقتصاد السوداني انهار بعد انفصال جنوب السودان عن الدولة الأم في عام 2011، الأمر الذي حرمه من دولارات النفط. وحين كانت الأوقات طيبة – وحتى بعد ذلك – أنفقت الحكومة التي تركز على نتائج الأمد القصير، بسخاء على الحروب والعقارات، وفشلت في الاستثمار في مشاريع بديلة للنفط، خاصة في القطاع الزراعي. وتظهر في أفق العاصمة مبان غريبة تطل على نهر النيل. وتم تشييد مبان عسكرية فخمة على شكل قوارب وطائرات. ويُذكر فندق بيضاوي الشكل بناه معمر القذافي، الدكتاتور الليبي السابق، الموجود في قلب المدينة، بشكل القنبلة اليدوية. وعشرات الآلاف من الطلبة الذين يتخرجون في الجامعات سنويا يمثلون جهدا مهدرا، لأنهم لا يجدون وظائف ولا تستفيد البلاد من تعليمهم. أما العملة التي لها سعر رسمي وآخر في السوق السوداء، فتنخفض قيمتها باستمرار، الأمر الذي يسبب نزيفاً للنقد من الاقتصاد الرسمي. ويقول فادي سالم، رئيس بنك الخرطوم، وهو أكبر بنك في البلاد: "اعتدنا أن نتلقى مبالغ تصل إلى 400 مليون دولار من تحويلات السودانيين العاملين في المملكة العربية السعودية سنوياً، لكننا نتلقى الآن مبلغ عشرة ملايين دولار فقط، والباقي يأتي عن طريق السوق الموازية". وفي محاولة من الدولة للتقليل من نفقاتها، رفعت الدعم عن السلع الأساسية وزادت الجمارك على الواردات بسرعة فاقت معدلات ما اقترحه صندوق النقد الدولي. وهذا هو الذي عجل بحدوث موجة من الاحتجاجات الشعبية. وقال صابر محمد حسن، رئيس أمانة الاقتصاد في حزب المؤتمر الوطني الحاكم، الذي أبدى مع ذلك قلقه من استمرار الدعم على القمح والزيت: "ربما كانت جرعة (الإصلاحات) عالية إلى حد ما". وهو يقول عن الدعم المستمر للقمح الذي يقدر بنسبة 49 في المائة والمقدم للمستوردين عن طريق أسعار صرف تفضيلية: "الدعم ثقيل جداً، ولا يعكس ما هو مخصص له في الميزانية – وهذه مشكلة أخرى". ويعوض البنك المركزي هذا النقص بطبع عملة جديدة، يمول بها أيضا دعم النفط الخام، ويشتري بأسعار السوق السوداء الذهب المستخرج محلياً، ثم يبيعه مقابل عملة صعبة بأسعار الصرف الرسمية، وهذا يغطي العجز في الميزانية. وتقول عابدة المهدي، المستشارة الاقتصادية المستقلة: "البنك المركزي بعمله هذا يزيد التضخم، والآن الاقتصاد يواجه أزمة". وتضيف أن الحكومة عاجزة الآن عن دفع قيمة السندات التي أصدرتها إلى المصارف التجارية المحلية، واستنفدت خطوط الائتمان المتاحة لها لاستيراد القمح. ولا يزال الإنفاق عالياً، لأن السودان ما زال يحارب في عدة جبهات في البلاد، وهي حروب تستهلك أكثر من 70 في المائة من الميزانية. وتشهد المعارك التي يخوضها البشير ضد المجموعات المتمردة في أطراف البلاد، مثل دارفور والنيل الأزرق وجنوب كوردوفان، غارات جوية جعلت من زراعة كثير من الحقول أمرا محفوفا بالمخاطر. واستنفدت هذه الأعمال ميزانية البلاد الهزيلة. واليوم نرى الجبهة الثورية السودانية، وهي ائتلاف من المتمردين، وهي تشكل روابط وثيقة مع بعض المجموعات المعارضة، وربما يصبح هذا الائتلاف في يوم ما تهديدا حقيقياً لمركز النظام من الناحية المادية والسياسية. ويقول أحد المطلعين على الشؤون السودانية منذ زمن طويل، "إن الطرق السياسية المعتادة التي يتبعها النظام وهو يحاول إطالة وجوده أصبحت مكشوفة بصورة متزايدة، وهي تتضمن إشراك قوى جديدة في الحكم، أو العمل على تفكيك المعارضة، أو تشغيل شبكات واسعة من الموالين له، أو تعويم إصلاحات دون تنفيذها على أرض الواقع". ويقول: "شكلوا عشر لجان للنظر في الإصلاحات. إنه نوع من التكتيكات التي تميز سلوك حزب المؤتمر الوطني الحاكم". وعمل تصعيد سلاحه الحاد الآخر، الأكثر حدة ـ الشبكة الأمنية المتغلغلة في البلاد وعمليات القتل والاعتقالات ـ على إحداث انقسامات داخل صفوف النظام. فقد انشق غازي صلاح الدين العتباني، الرجل القوي في الحزب الحاكم، من الحزب بعد أن تساءل عن شرعية وجود الرئيس بعد الإجراءات التي اتخذت، وذهب ليؤسس حركته الخاصة التي تسمى حركة الإصلاح الجديدة. وتم استبعاد خال الرئيس البشير، الطيب مصطفى، وهو إسلامي ينتمي لليمين المتطرف، لمعارضته التشدد في الإجراءات المتخذة. بائع فاكهة يعرض بضاعته في أحد أسواق الخرطوم في وقت عمل فيه التضخم المستفحل على جعل كثير من السلع المعروضة في الأسواق بعيدة عن متناول قطاعات كبيرة من السودانيين. السودان معتاد على مثل هذه التكتيكات الفظة، فقد جاء الانقلاب العسكري الأول بعد سنتين من الاستقلال عن الحكم المشترك البريطاني ـ المصري في عام 1956. واليوم يبذل النظام كل جهده لضمان عدم توسع المظاهرات لتبلغ الأرقام، أو التنسيق الذي وصلت إليه الانتفاضات العربية، ولا مستوى الانتفاضات التي حدثت مرتين في الماضي في السودان، عندما أسقطت إضرابات عامة منظمة جيداً نظامين عسكريين في عامي 1964 و1985. ويعتمد النظام على الاحتجاز التعسفي وعلى شبكة من المخبرين المنتشرين بصورة واسعة جداً، لدرجة أن بعض المنشقين يخشون من استخدام هواتفهم الخاصة داخل البلاد. ويصف السودانيون مبنى أمنيا بأنه مثل سجن جوانتانامو. وقد اعتاد ناشطون وصحافيون وسياسيون، سواء كانوا في العقد الثاني من أعمارهم أو العقد السابع، قضاء حياتهم وهم يدخلون ويخرجون من السجون. ويقول دبلوماسي رفيع: "أجهزة المخابرات الوطنية والأمنية منتشرة في كل مكان، وتبذل ما في وسعها للحفاظ على سيطرة قوية وشديدة على الأمور، لكن ذلك لا يشبه أيام التعذيب التي كانت منتشرة في التسعينيات. فالنظام أكثر مرونة وأقرب إلى البرجماتية مما كان سابقاً". ومن بعض الجوانب، يستطيع النظام تحمل تكلفة القيام بمثل هذه الأساليب. فسيطرة البشير هي أعلى إنجاز يحققه نظام اعتاد على التحايل على منظومة دعم لبقائه، وهو نظام جعل أي بدائل أخرى تبدو مستحيلة، واستخدم العقاب القوي بشكل يكفي لردع المنشقين عنه. وقام نظامه بشكل منظم بتفكيك، أو استقطاب نقابات العمال والمعارضة السياسية واتحادات الجامعات ووسائل الإعلام الحرة والخدمة المدنية. كما أحدثَ تشكيلات جديدة في الجيش، وهو الآن بحسب بعض الشهود، يدير معسكرات تدريب لميليشا مجهزة جيداً في العاصمة. ويشعر بعض رجال الأعمال بأن من واجبهم الانضمام لحزب يعبرون عن كرههم له في محافلهم الخاصة. ويعتمد تخفيف الضغوط الاقتصادية على النظام بشكل كبير على ما يحدث في جنوب السودان. فالعلاقات تحسنت بين الحكومتين بعد خلافات سياسية أدت إلى توقف إنتاج النفط لمدة 16 شهراً، قبل أن يُستأنف في العام الماضي. لكن عدم الاستقرار في الجنوب يمكن أن يقطع مرة أخرى شريان حياة الاقتصاد في الخرطوم، إذ تسبب الاقتتال الدائر هناك في إغلاق خُمس إنتاج النفط من جنوب السودان حتى الآن. وهذا هو السبب في أن الخرطوم، على خلاف عادتها، تدعم عدوها السابق ضد تمرد واسع في مسعى منها لضمان تدفق النفط، كما وعدت بحرية التجارة عبر الحدود. ويقول أسامة داود عبد اللطيف، أبرز رجال الأعمال في البلاد: "كنا نؤمِّن نحو 80 في المائة من جميع الطحين الذي كان يُستهلَك في الجنوب". وهو يقدر أن التجارة مع الجنوب يمكن أن تدر ثلاثة مليارات دولار سنويا، أي أكثر من إيرادات النفط وصادرات الذهب معاً. وهناك احتمال أيضاً لتخفيف أكثر من 40 مليارا من الديون، وتخفيف العقوبات التجارية الأمريكية، وإن كان ذلك على بعد عدة سنوات من الآن وربما يكون مشروطا بتحقيق السلام في قسمي السودان، الشمالي والجنوبي. وبلوغ هذه الغاية لن يكون يسيرا، وإذا أراد النظام البقاء على قيد الحياة فلا بد له من الإصلاح، حتى تتخلص مبررات التمرد، يتفاوض مع المتمردين، مع العمل على ضمان ولاء الجيش. لكن تجربة سوداتل، شركة تشغيل الهاتف الرئيسية التي تملك الدولة فيها حصة الأقلية، الفاشلة تعطي فكرة عن عجز النظام عن الإصلاح. فهذه الشركة التي كانت البقرة الحلوب، أهدرت الثروات التي تم جمعها في سنوات الطفرة وسقطت في هوة انعدام الملاءة. فقد أثقل موظفو الشركة ممن لهم علاقة بالنظام، كاهلها بعقارات وعقود بأسعار تصل إلى عشرة أضعاف الأسعار السائدة. وفاز أشخاص غير مناسبين من الحزب والدولة بأعلى المناصب فيها. ومبيعات الشركة بالدولار، المحولة إلى العملة المحلية، تآكلت قيمتها بسرعة بسبب التضخم. ويقول شخص مطلع على الأوضاع الوخيمة للشركة: "لقد أحرقوا نحو ملياري دولار بأعمالهم هذه وتكبدوا مليار دولار من الديون". وفي 2012 تم تعيين فريق جديد لإصلاح الأوضاع في إطار خطة تمتد ثلاث سنوات، وقد حصل الفريق على موافقة الرئيس على فصل أسوأ الأشخاص، وتوظيف أصحاب مؤهلات حقيقية وإصلاح ممارسات الأعمال، حتى إن كان ذلك يعني استبعاد الوزارة من شؤون الشركة. لكن الفريق وقع في المشكلات على الفور تقريباً وأصبحت العلاقات الوثيقة بين الشركة والنظام واضحة حين تم قطع الإنترنت في جميع أنحاء البلاد في أوج احتجاجات السنة الماضية. وحين أقدم أحد كبار التنفيذيين في ذلك الحين على إعادة الإنترنت، أُمِر بتقديم استقالته. ربما تعمل الطاقات القمعية للنظام على إبقائه في السلطة في الوقت الحاضر، رغم تصاعد مشاعر الاستياء. وتشير مشكلات سوداتل إلى أن عدم رغبة النظام – أو عجزه – عن إدخال إصلاحات فعالة سيضعِف فرص بقائه على الأمد الطويل.