رمضان الخير والرحمة والسلام يأتي في نفس الموعد معانقا قلوب محبيه الذين ينتظرونه كل عام. يستقبلونه بصلوات ودعوات وتسابيح؛ فيهبهم سلاما ورحمة ونبع سكينة لا ينضب. لرمضان في الحجاز ذاكرة ملونة بأضواء المآذن وإنارات الأزقة التي تنحني بحنان معانقة (الرواشين) الحجازية الرطبة والحارات المتجاورة بسلام. ذاكرة تتجدد كل عام حاملة باقة من الصور الحميمة والذكريات المعتقة برائحة بخور «المستكة» حين تبخر بها كؤوس ماء زمزم قبل الإفطار. وأصوات الأبواب التي يطرقها الأطفال وفي أيديهم هدايا من المأكولات الرمضانية التي يتبادلها الجيران؛ فتكبر بها الموائد العامرة بالحب كما هو حال قلوب الحارات الطيبة. التواصل والتراحم وطيب الجوار.. مفردات رمضانية سامية تعطر الأزمنة الجميلة؛ حيث البساطة تعانق الرضا؛ فيرضى بها وترضى به. وحيث صوت المسحراتي في حارات مدينة جدة القديمة يشق دجى الليل وقت السحور مناديا: «مساكم الله بالرضا والنعيم، يا نايم وحد الحي الدايم». إلى «حارة المظلوم» يصل المسحراتي في رحلة ليلية معتادة بعد مروره بحارات مجاورة أخرى. وفي كل ليلة ندعو الله نحن الصغار أن تكون حارتنا آخر حارة يوقظها المسحراتي ليطول نومنا؛ إلا أن المسحراتي كان يأتي كل ليلة في موعد لا تخطئه قدماه. يأتي حاملا معه طبلته الصغيرة وصوته الجهور المدثر بالرضا والخشوع. وفي نهاية شهر رمضان يظفر بـ«العيدية». وتلك عادة من العادات التي يتعارف عليها أهل الحارة؛ فهم يدفعون للمسحراتي ما تيسر عن طيب خاطر وشعور بالالتزام دون شروط مسبقة ولا قوانين ملزمة. فالقوانين والأعراف يتواضع عليها الأهالي تحت نظر «عمدة» الحارة، ثم يلتزمون بها جميعا ومن يخرج عليها يخرج على إرادة الجميع، وهو ما يجعله منبوذا خارجا عن السياق الجمعي. وذا أمر ينسحب على كل العادات والأعراف التي يجمع عليها أهل الحارة ويسيرون حياتهم وفقا لها؛ بما في ذلك مراعاة حسن الجوار فضلا عن المشاركة في المناسبات السعيدة والحزينة وخلافه. كنا صغارا على الصوم، حين كانت جدتي رحمها الله توقظنا لتناول السحور، ثم تعدنا في الغد بأن تخيط لنا نصف اليوم الذي صمناه بنصف يوم آخر حتى يكتمل صوم يوم كامل. كان هذا الكرم يغري أصابعنا الصغيرة بالغوص في قدر المهلبية الحلوة في عز الظهيرة، وبأكل الفستق المتناثر فوق وجوه الأواني الصغيرة التي يسكب فيها قوام المهلبية الأبيض الغليظ. حتى تغدو بطوننا - ممتلئة بالنعمة - كبطون صغار القطط التي تتدحرج على بعضها في أجواء من اللهو المتواصل. وحين يحين وقت الإفطار نجلس على المائدة مقلدين الكبار ومتظاهرين بأن الصوم قد قطف بهجة وجوهنا؛ فتكذب ما ندعيه آثار «شراب التوت» على الشفتين وما جاورها. ولكن رمضان الكريم لا يغضب من براءة الأطفال. في رمضان تقوم السيدات بما يسمى في الحجاز بـ«تقشيع» البيت؛ حيث تقلب السجاجيد على وجوهها وترص المساند و«الطواويل» وهو ما يجلس عليه من الأرائك فيما يشبه الجبل في زاوية من زوايا الغرفة. فإن حانت ليلة العيد يستعيد أثاث البيت وضعيته السابقة فيغدو جديدا، أو أن احتجابه عن الأنظار طوال الشهر، ثم ظهوره هو ما يجعله كذلك! كان من أجمل الألعاب الرمضانية لدينا نحن الصغار صعود تلك الجبال من المساند المتراصة، وارتقاء تلال «الطواويل» التي نحولها إلى لعبة نتزحلق عليها ضاحكين بعد الإفطار وآناء النهار. نكركر كلما سقطنا من قمة جبل الوسائد، ثم نعيد الكرة غير آبهين بالسقوط. ورمضان كريم لا يغضب من شقاوة الأطفال. في مغرب رمضان لا أجمل من صوت مدفع الإفطار الذي يخترق سكون الحارة في أمان وبهجة يصاحبه صوت الأذان معلنا نهاية الصوم. وهو الصوت ذاته الذي يبدأ به الشهر الفضيل وينتهي. ولكن عدد مدافع دخول الشهر وخروجه تتفوق في عددها، فضلا عما تغمر به النفوس من سعادة تتراقص كألوان قوس قزح. مدافع ليلة العيد صوت البهجة مختلطا بالتبريكات والأماني الطيبة ومبشرا بـ«العيدية» التي ينتظرها الصغار طوال شهر رمضان. ليلة العيد تلبس البيوت أجمل أثوابها وتتزين بالفرح وينام الأطفال عادة بجوار ثيابهم الجديدة التي يرتدونها فجرا متوجهين بصحبة الكبار إلى صلاة العيد. تقام صلاة العيد في «المشهد» وهو مكان كبير في أرض فضاء تخصص لهذه المناسبة؛ فيه يصلي الناس ويتبارى الصغار بعرض ملابسهم الجديدة في جو كرنفالي يكثف الفرح حتى كأنه يختزله في دقائق معدودة ذات مذاق حلو جدا وعصي على النسيان. مائدة إفطار العيد تحفل بالمأكولات الشعبية اللذيذة وبخبز «الفتوت» الذي يصنع في المنزل خصيصا لهذه المناسبة وبالحلوى المسكرة حد الفرح. لم تكن تلك الأطعمة الخاصة بالعيد مما يعتاد الناس على تناوله طوال العام؛ مما كان يجعلها فريدة في وقتها ويجعل فرحة الناس بها مضاعفة. أما «العيديات» تصحبها التهاني وزيارات الأهل والجيران فمتواصلة تترى من بعد صلاة العيد ولا تتوقف. الكل يلبس الجديد والكل سعيد؛ والسعادة في حالات البساطة والرضا والقناعة تأتي أضعافا مضاعفة. لك السعادة والبشر يا رمضان ولوجهك الطيب ملامح التواصل والتراحم والتسامح وكل عام وأنت والجميع فيك وبك بخير ومحبة وسلام. * شاعرة وكاتبة سعودية