لا يزال القطار الحديدي، أو تران السكّة كما يسمّيه عامة اللبنانيين، يعيش مرحلة مصيريّة، فهو عاطل عن العمل منذ اندلاع الحرب الأهلية في لبنان العام 1975.. وفي حين يرى البعض الحاجة إلى وضعه من جديد على السكّة الصحيحة من قبل المسؤولين، بعدما بلغت زحمة السير ذروتها، يحاول البعض الآخر حفظ كرامته من خلال تحويل ما تبقّى منه إلى متحف أثري يحكي قصة وسيلة نقل شعبيّة لا تزال تحتلّ حيّزاً مهمّاً من ذاكرة اللبنانيين. وكان الفرنسيون رسموا اللوحة الزمنيّة لتاريخ القطار في لبنان، منذ العام 1891، بعد صراعٍ دوليّ على تلزيم مدّ خطّ سكّة الحديد، وشراء فرنسا حقّ الاستثمار من اللبنانيّ يوسف أفندي بيهم.. وهكذا، أنشئ أوّل خطّ بين بيروت ودمشق وحوران (في سوريا)، ليصل في العام 1906 إلى حلب قبل شقّ خطّ طرابلس في العام 1911 ووصله بتركيا في العام 1912، ما ربط لبنان بالعالم العربي وأوروبا وأفريقيا. وشكّلت بلدة رياق، الواقعة بين مدينتَي زحلة وبعلبك في منطقة البقاع اللبنانية، همزة الوصل بين مختلف الخطوط العابرة للقارات. وفي عهد الاستقلال، في العام 1961، أنشِئت مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك لبيروت وضواحيها، وعهِدت إليها إدارة واستثمار الخطوط الحديدية: خطّ عريض يمتد من الناقورة إلى طرابلس فالحدود اللبنانية- السورية وطوله 233 كلم تقريباً، خطّ جبلي ضيّق بين بيروت ورياق والحدود السورية ، وخطّ عريض من رياق إلى القصير السورية. ولم تدمْ هذه اللوحة الجميلة كثيراً، إذ سرعان ما مزّقتها الحرب الأهلية (1975- 1990)، لتغدو لدى اللبنانيين مجرّد صورة في الذاكرة، بعدما أصيبت منشآت سكك الحديد وتجهيزاتها ومبانيها وآلياتها ومعداتها بأضرار جسيمة، كما تعرّضت مساراتها لتعديات مختلفة. علماً أن خدمات سكك الحديدة متوقفة كلياً منذ 1995، و سيّرت آخر رحلة قطار بين بيروت وشكا في 1994. لا بديل من القطار قد يكون لبنان البلد الوحيد في العالم الذي استغنى عن خدمات السكك الحديد، وإن كان ذلك بفعل الحرب والأحداث إلا أن عدم الاهتمام بإنعاش هذا المرفق الحيوي يشكّل نقطة سوداء على جبين حركة المواصلات. أما عودة الحديث عن ضرورة تأهيل وإنشاء سكك حديد في لبنان، في ظلّ وضع النقل المشترك المتأزم، فأدّت إلى تدفق الدراسات لاحتساب كلفة المشروع، بغضّ النظر عن النية من ورائه. وهنا تشير الأرقام إلى أن الكلفة تتراوح بين 20 و30 مليون دولار، وتتضمّن بناء سكك الحديد كلها، المحطات وكل توابعها، القطارات، الرصد، أجهزة الاتصالات والحواسيب، وغيرها من المستلزمات اللوجستيّة.