تحارب مهنة صناعة الأواني الزجاجية في مصر، على جبهات معركة ضارية، وربما تكون الأخيرة، من أجل البقاء، بعد أن ظلت لأكثر من خمسة آلاف عام، تتربع على عرش الصناعات اليدوية التقليدية، ليس في مصر فحسب، وإنما في منطقة الشرق الأوسط، وهي الفترة التي ظلت أنامل الصناع تبدع فيها، وتخرج للعالم أجمل اللوحات المصنوعة من الزجاج المصهور. على مدار عقود من الزمان، حافظت أجيال عدة على بقاء تلك المهنة التقليدية التاريخية، وتحول الكثير منهم إلى سفراء في العديد من دول العالم، بعدما أبهر الصانع المصري الدنيا بفنونه التي تجعل من الزجاج المصهور، ليس فقط أشكالاً فائقة الجمال ومتعددة الاستخدامات في الحياة اليومية، وإنما تحف فنية قلما يوجد مثلها في العديد من بلدان الشرق. وتروي العديد من كتب الأثر، كيف تميزت مدينة الإسكندرية بتلك الصناعة في غابر الزمان، وكيف أبدع صناعها صياغة الزجاج المصور في أشكال كريستالية فائقة الجمال ومتنوعة الألوان، حتى تحولت مدينة الثغر إلى قبلة لعشاق الجمال من الإيطاليين في عصر النهضة الأوروبية، هؤلاء الذين كانوا يحرصون على اقتناء ما تنتجه أنامل المصريين في ذلك الزمان، من تحف مصنوعة من الزجاج الخالص. مراحل عدة وتمر صناعة الأواني الزجاجية بمراحل عدة، قبل أن يخرج المنتج في صورته النهائية، تبدأ بتعريض الزجاج لدرجة حرارة عالية تصل حسبما يقول بعض صناع المهنة، إلى ما يقرب من 1200 درجة مئوية، وهي درجة حرارة كافية لأن تحول الزجاج إلى سائل، يختلف لونه طبقاً لمكوناته، ومدى نقاوة الرمال المستخدمة في صناعته، ويقول الحاج جلال الجندي أحد أشهر الحرفيين في تلك المهنة: رمال الزجاج هي الأساس في تلك الصناعة، فكلما كان الزجاج مصنوعاً من رمال صافية تمتاز بدرجة عالية من النقاوة، كان السائل المصهور شديد النقاوة، لأنه يحتوي على نسبة ضئيلة من المواد الملونة، مثل أكسيد الحديد والكروم والتيتانيوم. ويعمل رمضان عبدالصمد البالغ من العمر 60 عاماً في تلك المهنة منذ ما يزيد على 45 عاماً، ويقول عنها إنها: مهنة شاقة وتحتاج لحذر شديد أثناء العمل، لأن الصانع يتعامل فيها مع سائل تصل درجة حرارته إلى أكثر من ألف درجة مئوية، وهو ما يستلزم الدقة والسرعة والحرص أيضاً. وتعد رملة الزعفران أحد أهم الأنواع التي يتعامل معها صناع الزجاج في مصر، وتأتي من صحراء سيناء الغنية بمختلف المعادن، حيث تخلط هذه الرمال مع كربونات الصوديوم والحجر الجيري، قبل أن يتم الدفع بهذا الخليط داخل الفرن الخاص بالصهر، لتخرج في النهاية في صورة سائل يتم تشكيله بطريقة النفخ، إلى مختلف الأشكال والأحجام. وتنتج أنامل الصناع في تلك المهنة العديد من الأدوات التي تستخدم في الحياة اليومية، بداية من أكواب الشرب، والأباريق ذات الطابع الشرقي، وليس انتهاء بأدوات الإضاءة الكهربائية، والقناديل متعددة الاستخدامات، بل إن كثيراً من الحرفيين المهرة، يقومون برسم بعض الأشكال على هذه المنتجات بعد صبها، لإضفاء لمسات جمالية ساحرة، حيث تتراوح هذه الرسوم ما بين الخط العربي المستخدم في كتابة الآيات القرآنية، أو الرسوم شرقية الطابع، والحفر بواسطة الشمع. ويستخدم الصناع في تلك المهنة طريقة النفخ لتشكيل سائل الزجاج المنصهر، ويتم ذلك عن طريق أنبوب من الحديد، حيث يحول النفخ سائل الزجاج إلى فقاعة مملوءة بالهواء، يتم تشكيلها بسرعة فائقة، على نحو ما يريد الصانع، ثم زخرفتها وهي لا تزال لينة جراء التسخين الشديد، وإضافة الألوان المطلوبة، والتي تتراوح دائماً ما بين الأحمر والأخضر والتركواز والروز، ويقول رمضان: نستخدم في تلوين هذه القطع الألوان الحرارية، لكن يتعين إدخال المنتج النهائي إلى الفرن الكهربائي الذي يتم تشغيله على درجة حرارة تصل إلى 600 درجة مئوية، حتى يتم تثبيت اللون. تنتج العديد من ورش صناعة الزجاج التي لا تزال باقية في مصر حتى اليوم، كميات كبيرة من مصابيح الإضاءة وأطقم الشاي والقهوة، إلى جانب بعض أدوات الزينة التي تستخدمها النساء مثل المكاحل وعبوات العطور، ويقول علي عبدالرحيم أحد تجار منطقة خان الخليلي: لا تزال تلك المنتجات تجد زبائنها الذين يفتشون عنها، ويقبلون على شرائها على الرغم من ارتفاع أسعارها مقارنة بمثيلاتها المستوردة من الخارج، ويضيف: هؤلاء الزبائن يتعاملون مع تلك الأدوات باعتبارها قطعاً فنية يحرصون على اقتنائها وتزيين بيوتهم بها، وليس مجرد أدوات للاستخدام اليومي. حرفة عربية ينظر كثير من المهتمين بالصناعات التراثية إلى صناعة الزجاج باعتبارها حرفة عربية بالأساس، ويقولون إن الفضل يرجع إليها في تطوير العديد من فنون صناعة الزجاج في أوروبا خلال سنوات عصر النهضة، بعد أن دخلت تلك الصناعة إليهم عن طريق عرب شمال إفريقيا أثناء هجراتهم إلى إسبانيا، مما أتاح للأوروبيين تطوير الزجاج المعشق، بما يتماشى مع فلسفتهم واعتقادهم واحتياجهم. ورث الحاج جلال الجندي أحد أشهر صناع الزجاج في مصر، تلك المهنة عن أبيه وجده، وهو يقول في فخر إنه سوف يورثها إلى أبنائه، لأنها حرفة العائلة التي يجب الحفاظ عليها، والإبداع فيها على نحو ما صنع الآباء. ويفخر الجندي كثيراً بالعديد من المعارض الخارجية التي شارك فيها، وأبهر خلالها المتابعين بما ينتجه من قطع فنية تسحر الألباب، وهو يقول عن ذلك: شاركت في العديد من المهرجانات الدولية للزجاج، وتلقيت عروضاً عدة من كثير من الدول للاستعانة بخبراتي في تدريب بعض الصناع لديهم، مثل قبرص واليونان وهولندا وإنجلترا وغيرها، وإن ظلت إنجلترا تمثل المحطة الأهم في جولاتي الخارجية، ويضيف: لقيت هناك حفاوة بالغة اعتبرتها بمثابة تقدير لمصر والمصريين، ودهشت عندما لمست مدى اهتمام السلطات في برمنجهام بتلك الصناعة، لدرجة أنهم أسسوا معهداً كبيراً لدراستها، وقد عرفت أنهم يخططون لإحياء تلك الصناعة بعد اندثارها في تلك المقاطعة التي كانت تشتهر بها في الماضي.