كان محمد بن داود الأصبهاني المعروف بالظاهري (ت 297 ه) أحد العلماء والفقهاء الكبار في عصره، وقد حفظ القرآن الكريم وله من العمر سبع سنوات، واشتهر بمناظراته مع العلماء وقدرته على الإفتاء، إلى جانب ذلك كله كان الأصبهاني أديبًا وشاعرًا تمتاز أشعاره بالجمال والعذوبة، منها على سبيل المثال أبيات يقول فيها: على كبدي من خيفة البَين لوعةٌ يكادُ لها قلبي أسىً يتصدعُ يخافُ وقوع البين والشمل جامع فيبكي بعينٍ دمعها مُتسرعُ فلو كان مسرورًا بما هو واقعٌ كما هو مسرورٌ بما يتوقعُ لكان سواءً برؤهُ وسقَامهُ ولكن وشك البين أدهى وأوجعُ لكن الأصبهاني أو "فقيه العراق" -كما وصفه ابن الرومي- لم يرغب في اقتران اسمه بوصف "شاعر"، وظل لسنوات طويلة يخفي موهبته الشعرية لأسباب واعتبارات ذكر منها الدكتور إبراهيم السامرائي محقق كتابه (الزهرة): "انصرافه إلى التفقه في علوم الدين والرد على الذين ناظروه والانتصار لأبيه من الناشئ المتكلم". وأعتقد أن هناك سببًا واضحًا لم يُشر إليه السامرائي وهو كون الأصبهاني من الشعراء العُشاق أصحاب القلوب "الخضراء"، مما أدى لميله الواضح لغرض الغزل والحديث عن العشق، وهو ما قد يراه البعض مأخذًا على عالم شرعي وفقيه يعمل بالإفتاء. ومع أن الأصبهاني نجح إلى حد كبير في منع اكتساح موهبته الشعرية، ولم يُعرف كشاعر بسبب حرصه الشديد على عدم انتشار أشعاره أو نسبتها إليه، إلا أن أحد المواقف التي حدثت له يوضح لنا حجم حزنه على تفريطه في أشعاره، فقد روي أن القاضي الأزدي كان يُسايره ببغداد فإذا جاريه تُغني بأبيات له تقول: أشكو عليل فؤادٍ أنت مُتلفه شكوى عليلٍ إلى إلفٍ يُعلله سقمي تزيد مع الأيام كثرته وأنت في عظم ما ألقى تُقلله اللهُ حرَّم قتلي في الهوى سفهًا وأنت يا قاتلي ظُلمًا تُحلله فتساءل الأصبهاني: كيف السبيل إلى استرجاع هذا؟ فقال الأزدي: هيهات سارت به الركبان..! يشترك مع الأصبهاني في مُحاولة مقاومة اكتساح موهبة الشعر لاعتبارات شرعية شعراء كُثر، من أبرزهم الإمام الشافعي صاحب البيت الشهير: ولولا الشعر بالعلماء يُزري لكنتُ اليوم أشعر من لبيدِ وهناك أيضا شعراء شعبيون قاوموا اكتساح الشعر وهجروه بشكل شبه تام بعد التزامهم الديني خشية أن يُزري بهم أي يعيبهم وينقص من قدرهم، لاسيما أولئك الشعراء الذين يطغى غرض الغزل على أشعارهم، ولعل الشاعر المبدع متعب التركي أحد أشهر الممتنعين عن كتابة الشعر وخاصة الغزل لأنه بحسب رأيه "أمر مُحرم، وليس هناك غزل درجة أولى ودرجة ثانية فالغزل يبقى غزلاً والمحرم يبقى مُحرماً"..! أخيرًا يقول علي بن نايف الغامدي: لا جابوا أخباره وطرّوا سيرته لجّت معاليق الضماير مرحبا وجاني حنين المغترب عن ديرته والشايب اللي حنّ لأيام الصبا