هيثم حسين يعالج المغربي طارق بكاري (1988) في روايته "نوميديا" قضية الهوية القلقة في واقع متشظّ عنيف، وكيف أن الذاكرة تظل مسكونة بعنف يتجدد مع تعاقب الأحداث واستفحال المصائب، ويرمز إلى أن الإنسان يكون مزيجاً معقداً من مجموعة من العوامل التي تساهم في بلورة هويته المنفتحة على الآخر من دون استعداء أو تعال، بحيث يكون تقبل الآخر والتكامل معه عتبة التصالح المأمولة لبناء الشخصية وتقويمها. يصور بكاري في روايته (الآداب بيروت 2015) كيف أن الواقع العنيف يدفع الشخصيات إلى مسالك العنف ودروب الفساد، فالطبيب المؤتمن على أسرار مرضاه يبيع ضميره مقابل حفنة من المال، واليسار الهزيل يسعى إلى ترميم صورته البائسة واضمحلاله وخيباته الثورية، وخذلان أتباعه لمبادئهم نفسها، ثم هناك صورة المستعمر الباحث عن استكناه الشرق عبر الكتابة والحكاية والحب والخيال، ناهيك عن استحضار التطرف الذي يبدأ بالفتك بأفراد المجتمع، ويستعجل باستدراج الناس إلى أنفاق ظلامية. يبقي بكاري بطل روايته، التي اختيرت ضمن اللائحة الطويلة لجائزة البوكر 2016، في مهب الصراعات الدفينة والتناقضات التاريخية التي يجسدها ويعيشها في الوقت نفسه، فهو غير واضح الانتماء من حيث رابطة الدم، فهو العربي المنتمي إلى الأرض والثقافة والهم، كما أنه ينتمي إلى أوجاع من عاش بينهم وتربى معهم من الأمازيغ، كذلك ينتمي إلى القارة الأفريقية بدفئها وصخبها وجمالياتها، ويكون مرتبطاً بالثقافة الفرنسية التي تشربها وبلورت شخصيته، وصقلته ليمضي طريق إنسانيته متسامياً على جراحه. بطل الرواية مراد الوعل، أو أوداد، شاب لقيط يتبناه رجل أمازيغي لا أولاد ذكورا لديه، يسعى إلى رعايته كابن مفترض له، يكبر الطفل وسط التعنيف الدائم من صاحبة البيت، لأنه يشعرها بعقدة نقص لمتزل عنها، ولا تكف عن إيذائه، وتبتكر السبل لازدرائه ودفعه إلى الهرب. أزمة وجودية يعيش مراد أزمة وجودية تعصف به، يفقد خصوصيته ويتماهى مع جراحه وأوجاعه، يشعر بالانتماء إلى كلّ مَن يعرفهم، وفي الوقت نفسه يعيش غربته المتعاظمة القاهرة. يلجأ بكاري إلى طريقة الرواية المفترضة التي يعيش أحداثها الرواة، تكون بطلة روايته جوليا الفرنسية روائية مفترضة تقتفي أثر حكاياتها عن الشرق، تكون مدفوعة بأوهامها بأن الغرب سرة العالم، وأنها بصدد نقل صور الشرق بطريقتها إلى عالمها، وتلجأ إلى طبيب أمراض نفسية، ترشوه بمبلغ معين، تشتري منه ملفات مرضاه، عساها تعثر على حكايات مثيرة لروايتها. يكون ملف مراد الوعل لافتاً بالنسبة لجوليا، تسعى إلى التعرف إليه، تختلق الذرائع لذلك، وبعد معرفتها به، تتغير الحالة من كاتبة تبحث عن حكايات غرائبية عن الشرق إلى عاشقة تقع في أسر بطلها المنشود، وتمضي معه إلى أقاصي الجنون والحلم، تتبعه إلى منطقته البعيدة، تعيش معه أحلامه وكوابيسه، تشفق عليه تارة وتغار منه تارة أخرى، تبقى مدفوعة بتناقضات تقودها في رحلة نحو اكتشاف الآخر، تلك الرحلة التي تكتشف فيها ذاتها ومجتمعها الغربي في عيون أبطال حكاياتها. " يحرص الكاتب طارق بكاري على أن تكون "نوميديا" محملة بالدلالات الواقعية والتاريخية، وذلك بلغة يوظف شاعريتها لتقديم لوحة تضج بالحياة، رغم سوداوية الواقع المعالَج ومأساوية المصائر. " خيال وواقع يمضي بكاري في رسم ملامح بطله مراد بما يوافق تمرده وتشتته وضياعه، يكون الخيال لعبته الأثيرة وملاذه الآمن، تراه يتخيل شخصية معشوقته "نوميديا"، يسميها على اسم ملكة أمازيغية مؤسطرة، يراها في صحوه ومنامه، يبحث عنها في كل امرأة يتعرف إليها. يعود مراد إلى قريته "إغرم" التي يصفها بالمجنونة، ويعترف أنه يقترف خطأ فادحاً بعودته، وأن تلك العودة ستحرك بسخط كل ذكرياته الراسبة. يعود إليها مضرجاً بأوجاع وجراح جديدة. يعود ليوقظ تعباً خاله قد انطفأ نهائياً. يُوقع الروائي بطله مراد نفسه في دائرة من الوهم والأسى، يدفعه إلى محاولة المكابرة على جراحه النازفة وهويته المتشظية وقلبه الكسير، يهرب من امرأة إلى أخرى، يستعيد صورة "خولة" وهو في متاهة مع "نضال"، يستشفي بجوليا من أسطورته المتخيلة نوميديا (اسم مملكة أمازيغية قديمة)، يعيش برفقتها لحظات فرحه ويأسه معاً، ويبقي على الخيال متقداً في انتظار نوميديا التي قد يرجو أن تغافله في أية لحظة. يشير بكاري إلى تنامي ظاهرة التشدد واجتياحها مناطق مختلفة في الشرق والغرب، ويكون ساعياً في إبقائه لهوية بطله مفتوحة إلى إمكانية التعايش والبناء. ومع أنّه يختم بنهاية تراجيدية لبطله الذي عانى كثيراً جراء نبذه ولعنه من قبل مَن يفترض بهم أنّهم أهله، إلا أنه بتلك الخاتمة يشرع الباب أمام ضرورة إعمال العقل لتجنب الوقوع في محن قادمة محتملة، أو وشيكة. يحرص بكاري على أن تكون "نوميديا" محملة بالدلالات الواقعية والتاريخية، وذلكبلغة يوظف شاعريتها لتقديم لوحة تضج بالحياة، رغم سوداوية الواقع المعالَج ومأساوية المصائر.