أرمانو كفازوني، أستاذ في جامعة بولونيا، ومؤلف له العديد من الكتب، من أشهر مؤلفاته روايتان تمَّت ترجمتهما إلى الإنجليزية: المكتبة الليلية (2010)، وصوت القمر (1990). في باسكارولا، وعند مصبِّ نهر البو في شمال شرق إيطاليا، هناك يقطن أحد سجناء الحرب العالمية الأخيرة، والذي قضى في معسكر اعتقال ماوتهاوزن عامين. لقد كان دائمًا يقول إنه لم يكن يعرف حينئذٍ أنه في معسكر ماوتهاوزن؛ لأنَّ المعسكر لم يكن معروفًا في ذلك الوقت، أو حتى اسما مألوفًا. وبعد أنْ انتهت الحرب اكتُشِف أنَّ جميع المعتقلين كانوا يتضورون جوعًا؛ حيث كان يُقدَّم لهم حساءٌ مجهول الهوية لا يعرف أحد مِمَّ صُنع، إلا إنه كان مجانًا بلا مقابل؛ هذا الأمر كان جديدًا بالنسبة لذلك السجين، وقَبِلَه دون تعليق؛ وهكذا، اعتاد أنْ يتناول حساءه باستمتاع، حتى إنه في بعض الأحيان كان يخيَّل إليه أنه رأى ما يدل على وجود حبة فاصوليا! عندما دخل المعتقل، كان نحيفًا للغاية ككلِّ سكان باسكارولا الذين يتميزون بالنحافة منذ عدة قرون، في تلك المنطقة الفقيرة. كما كان الأشخاص الآخرون في المعسكر نحفاء أيضًا. كانوا غرباء ولم يعرف من أين أتوا؛ لذا اعتقد أنَّها كانت مجرد سمة عامة، ولم يخطر بباله أنَّ ذلك كان بسبب سوء التغذية، الأمر الذي تكشَّف عنه الغطاء بعد انتهاء الحرب. كان عدد قليل من الأشخاص يشتكون من العلل في ذلك الوقت، ولكنه عزا ذلك إلى ضَعف بنيتهم، أو قد يرغب شخص ما فجأة في تناول الدجاج ويلح في طلبه. الدجاج، كما اكتُشف بعد انتهاء الحرب، لم يُقدَّم في أيٍّ مِن معسكرات الاعتقال، بل من الناحية العملية لم يُسمَع به كحيوان محتمَل أنْ يكون صالحًا للأكل! لقد قالوا لاحقًا أيضًا، إنَّ البرد قارس في ماوتهاوزن، ولكنه لم يلاحظ ذلك أيضا؛ لأنَّ الشتاء في باسكارولا أكثر برودة. باسكارولا مدينة بدون أيّ مورد اقتصاديٍّ، والسكان بين الحين والآخر يقتاتون على صيد عدد قليل من الأسماك، ولكن حتى تلك الأسماك كانت هزيلة، وربما تعاني من الجوع أيضًا؛ ومن ثمَّ فقد اعتاد السكان على مثل هذه الأمور فلم يعتريهم القلق كثيرًا حيال مستوى معيشتهم. هناك عدد قليل من الدجاج، ولكن قد أصابها الكساح، فهي تتغذى على عظام السمك ومن حين لآخر تضع بيضة، ولكن هذا البيض من الناحية العملية فارغ لا يمثل بأيٍّ شكل من الأشكال غذاءً حقيقيًّا؛ يأكل الأطفال المحار، ولكنهم لا يكبرون كثيرًا. في أحد الأيام كان يقود دراجته الهوائية من باسكارولا إلى كوماكيو، يتهادى على الطريق ويحرك الدوّاسات ببطء، عندما توقفَت بجانبه سيارة (جيب) حافلة بالجنود. وكما قال فقد أجبروه على أنْ يركب معهم ويترك دراجته هناك من دون مُراقِب. ثم زجُّوا به على متن قطار مكتظّ بأشخاص آخرين. لقد كانوا بالكاد يتحدثون مع بعضهم البعض. أعرَب عن مخاوفه عن مصير دراجته، التي كانت قد ألقيَت بلا مبالاة في حفرة، وظل يسأل من حوله: هل سأعثر عليها مرة أخرى؟ ولكن لا أحد يريد أنْ يتحدث. في ذلك الوقت وعلى طول الطريق المتجه إلى ألمانيا، كانت الحرب العالمية الثانية مشتعلة؛ هذا الأمر أيضًا اكتشفه في وقت لاحِق. وفي تلك الأيام أيضًا كانت الغلظة تسود تعامل الناس مع بعضهم البعض، حتى بين عمال سكة الحديد، الذين يدفعون ويزجُّون الركاب دون رفق أو تفهُّم، ولكن لم يسأله أيٌّ مِنهم عن تذكرته في أيِّ مرحلة من مراحل الطريق. لم يستطع من جانبه أنْ ينسى دراجته المهجورة في تلك الحفرة البعيدة. يمكنك أنْ تقول إنَّ هذه كانت المعاناة الوحيدة له خلال عامين قضاهما في معسكر اعتقال ماوتهاوزن، حتى إنه كان يحلم بها طوال الليل، لقد كان يتساءل دومًا: هل صدَأَت السلسلة أو أسلاك الإطارات؟ أو هل أفرغ أحدُهم هواء الإطارات؟. كان يكتب رسائل إلى أقربائه في الوطن يقول فيها: أنا على ما يرام هنا، ولكن كيف هي الأمور لديكم؟ هل وجدتم دراجتي؟. لكنه لم يصله أيُّ ردٍّ على الإطلاق! حاول مرةً التحدث إلى حرّاس المعسكر عن دراجته المفقودة: لقد كانت لديَّ هناك دراجة وألقيَتْ في حفرة، هل من الممكن أنْ تخطروا مركز الشرطة في كوماكيو عن هذا الأمر؟. لم يكن لديهم الصبر ليقفوا ويستمعوا إلى مثل هذا الهراء. في النهاية لم يجد الرجل دراجته، ولكن مَن يدري ماذا حدث لها؟!.