بكل أسف وأقول بكل أسف، لأن هول الكارثة ألجم كثيرا من الأفواه وليست الأفواه وحدها بل حتى قلمي كان يرتجف في إشارة إلى أنه واقع تحت تأثير الانفعال.. أقول بكل أسف وأسف شديد، لأن حجم الكارثة لا تطيقه الإنسانية بأشملها، وقد جرت العادة أن نهرب ونفر إلى المستشفيات كيما تطفئ آلامنا.. ولكن الوضع انعكس بالمقلوب وسارت المستشفيات تشتعل نارا وحريقا.. وبكل أسف أيضا فقد برهنت هذه الحادثة على أننا دائما ما نأتي بعد الحدث ولا نستبقه.. من هنا، فإن عمق المأساة وهول المصاب يترجم الواقع السيئ وأسلوب الأبطاء والإهمال.. وليس هذا بجديد، ولعل ما سبق لي ونشرته في «عكاظ» بتاريخ 30 أبريل 2014 وأورده نصا عن رواية الزميل والصديق غازي القصيبى (يرحمه الله)، إذ قال راويا عن الملك فهد أيام ما كان وليا للعهد: «في خريف١٤٠١/١٩٨١ كنت في الطائرة مع ولي العهد عائدين إلى الرياض.. صادف أن كنت بمفردي معه في الصالون، وكان يقرأ معاملات أمامه ويتحدث إلي بين الحين والآخر ثم يعود إلى الأوراق.. بغتة رفع رأسه من المعاملات وقال لي (ماذا أفعل بوزارة الصحة؟ اخترت لها أكفأ الرجال ورصدت لها أضخم الاعتمادات ومع ذلك لم تتحرك..!).. كنت أستمع صامتا واستمر الأمير فهد.. (هل تدري ماذا قررت أن أفعل؟ قررت أن أتولى وزارة الصحة بنفسي.. أتولاها شخصيا).. قلت على الفور.. (إذا وصلت الأمور إلى هذه المرحلة، فلماذا لا تبدأ بخيار آخر؟ أنا رهن إشارتك.. دعني أحاول).. قال (هذه تضحية لن أنساها لك). الصحة أعيت من يداويها: حتى أكون منصفا في حق زملاء كرام سبقوني في وزارة الصحة وأسلاف كرام خلفوني فيها لابد أن أقول بصراحة إن الخدمات الصحية في المملكة لم تكن قط موقع رضا من أحد..كان الناس يتذمرون من خدمات وزارة الصحة قبلي.. وظل الناس يتذمرون بعدي.. وكانوا يتذمرون في أيامي».. انتهى كلام القصيبي.. لقد كان الملك فهد صادقا مع نفسه أمينا على المصلحة العامة. لقد نال حريق مستشفى جازان ما يستحقه من تعليقات وتعقيبات عبر وسائط الإعلام المقروءة والمسموعة على المستويين الرسمي والشخصي.. وهي كارثة ستظل عالقة بالأذهان، لأنها ما كان لها أن تحدث بهذا الأسلوب وبهذا الحجم لولا أن هناك إهمالا وتسيبا.. والآن باشر وزير الصحة الجديد التحقيقات وهي كالعادة.. ولكنها لن تكتب ضد مجهول كما تعودنا ولكن سيكون ضحيتها موظفين كبارا بالمستشفى وفي إدارة الشؤون الصحية وفي الوزارة.. هذا أمر يحمد فعله ولكن الحقيقة التي تحتاج إلى جرأة أن نقف في مواجهة أنفسنا.. إذ أن الوزير يمتلك صلاحيات مطلقة وأنه أوتي به من مكان بعيد عن هذا المرفق ثم يبدأ في التعرف على المشاكل وأسبابها ويفكر في حلولها وهي تركة من التراكمات النتنة التي مضى عليها ردحا من الزمن.. وحتى يكون له تأثير يرضى به المسؤولون ويستشعره الرأي العام يعمد إلى قرارات في مقدمتها إبعاد كل المسؤولين الذين كانوا يحيطون بالوزير السابق.. ويأتي بآخرين يوازونه ويساوونه في الافتقار إلى المعرفة في شؤون المنصب الجديد وتلك مصيبة كبرى.. من هنا، فإن الوزارة هي التي توجع قلوب المواطنين وتدمي أفئدتهم. أحسب أن الخطوة الجريئة التي طال انتظارها هي أن تعمد الدولة إلى الاستعانة بالتأمين الصحي وتعميمه وهو من شأنه أن يمثل نقلة نوعية حضارية.. تقوي عضد المسؤولين وتسهم في رفع كفاءة المستشفيات.. إذ أن المستشفيات الخاصة كما يقولون (تحمل كتفا عن الوزارة) ولست أدري لماذا يتعثر هذا المشروع الحيوي.. أريد أن أقول إنه يجب وضع إستراتيجية ثابتة على المديين القصير والبعيد لوزارة الصحة ولكل الوزارات، لا تتغير بتغير الأفراد .. وأن تصدر لائحة خاصة تحدد مسؤوليات الوزير وترسم استراتيجية تخدم المصلحة العامة بكل أطيافها.. وحسبي الله ونعم الوكيل.