كان الإغريق قبل ألفين وخمس مئة عام يمسكون بشخص معوق أو مشوه كلما تعرض مجتمعهم لخطر أو وباء أو أي كارثة أخرى ثم يذهبون إلى موقع تقديم الأضاحي ويضربونه ثم يحرقونه حتى الموت على أنغام المزمار. هذه البشاعة تصور لنا مدى وحشية الإنسان عندما يغيب الوعي، وأزمة غياب الوعي كانت حاضرة ولا تزال، فثقافة القتل قائمة على أساطير وخرافات، ومتكئة على قهر الإنسان، ومنطق الغلبة للأقوى، فإذا غاب التفكير تنعدم فرصة اختبار الذات، وتنمو تصورات غير واقعية مما يؤدي إلى الخوف واللجوء للجماعة من أجل الاحتماء بهم. فتهميش العقل يؤدي إلى ضمور في الوعي، ويعد غياب الوعي من بين السمات التي تشترك فيها مختلف البلدان العربية تقريباً، وهو أحد عناصر الضعف التي تجمعها. وغياب الحرية هي في عمقها غياب الوعي بقيمة الفرد كإنسان وكمواطن، وعدم ظهور هذا الوعي كواقع مجتمعي فاعل حتى لدى النخبة المثقفة. فلا يمكن بناء قاعدة لمجتمع حرّ وواعٍ، إلا بالتأسيس مع حرية الفرد. هذه الحرية التي فشلنا في فهمها واستيعابها، فلم نتوصل إلى جعلها ثقافة متبادلة ووعياً مشتركاً بين أفراد المجتمع. ودائماً نتحدث عن خصوصية مجتمعاتنا العربية، وهذه الخصوصية صنعناها بعيداً عن الإنسان العربي كفرد مندمج ضمن التجربة التاريخية البشرية. فنحن نعيش معضلة غياب الوعي بحرية الفرد، وبه كقيمة مجتمعية تكون أساساً لوجوده في سياق علاقات المواطنة لا الخصوصية العرقية وغيرها. فالمجتمع الذي يتكئ على فكرة الفرد المواطن سيكون مجتمعاً أطول عمراً. فلا يمكن أن نحل مشاكلنا سواء مع المرأة وحقوقها وهويتها، وجميع الحريات المطلوبة دون أن نؤسس لحرية تقوم وتؤكد على قيمة الإنسان الفرد وكذلك مفهوم الفرد المواطن. ويذكر الأكاديمي الفلسطيني غازي التوبة أن "المواطنة" مفهوم ذو مضمون ثقافي وسياسي واجتماعي واقتصادي... إلخ، ولا يعني حب الوطن فقط، وهو مرتبط بتكون (الوطن-الأمة) نتيجة عناصر ثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية ودينية في عصور متتالية، وقد فشل الفكر القومي العربي الذي قاد المنطقة في المئة سنة الماضية في توليد قيمة "المواطنة" لأنه فشل في تحديد عوامل بناء الأمة، لذلك لجأ إلى الروابط الدنيا من طائفية وقبلية. وهذا يقودنا إلى محاولة فهم العناصر الأساسية المطلوبة لتحقيق المواطنة، فهذا المفهوم عميق جداً ولا يمكن تسطيحه بترديده دون عمل مؤسساتي وفردي من أجل الحفاظ على كيان الفرد، والفرد المواطن، والمواطنة التي تقتضيها التغيرات التي تحيط بنا، فهي سور حماية لنا من كل ما يعكر صفو أمننا النفسي والاجتماعي، ولعلنا نعيد تعريف المواطنة والمواطن والفرد المواطن والحرية ومعنى غياب الوعي.