بهدوء وبعيداً عن الأضواء يمر الفيلم المسمى (الثلج والسماء) من إخراج المخرج الفرنسي لوك جاك من مواليد عام 1967، والمشهور بأفلامه الوثائقية المدهشة، فهو الذي كتب وأخرج فيلم (مسيرة البنجوين) الذي فاز بجائزة الأوسكار كأفضل فيلم وثائقي عام 2005، والذي لفت فيه الانتباه لمعجزات الطبيعة من خلال رصد مسيرة البطاريق التي تقوم بها حين تبلغ سن التزواج. ويذهلك أن تعرف بأن جميع البطاريق من سن الخامسة وما فوق تهجر المحيط وتسلك الرحلة البرية الطويلة لما يزيد عن 100 كم لمقر تزواج أسلافها البطاريق، حيث يتم التزواج وتبيض الإناث ويتولى الذكور رعاية البيض محوطاً بين أقدامهم، ويتقاربون بوجه العواصف القطبية متحملين درجة حرارة 62 مئوية تحت الصفر، وتتحمل الإناث شهرين من الجوع ليرجعن بالغذاء لصغارهن حين يفقس عنهم البيض. ولقد أمضى فريق التصوير عامين في تصوير معجزة الطبيعة تلك ونال الفيلم جائزة أكاديمية السينما كأحسن فيلم وثائقي. المخرج لوك جاك يتمحور في أعماله حول معجزات شبيهة وليس غريباً عليه اختياره توثيق حياة وعمل العالم كلود لوريوس، في فيلمه الأخير بعنوان (الثلج والسماء) والذي اختير ليختم احتفالية مهرجان كان عام 2015. في الثلج والسماء يتجلى العالم الفرنسي كلود لوريوس بملامحه التي دمغها تفانيه بلمحة من النور والتسامح، ليحكي قصته حين بدأ بدراسة الجليد بالقطب الجنوبي منذ عام 1957، والذي يُعَدُّ العَالِم الأول الذي قد قام ومنذ عام 1965 بطرق ناقوس الخطر الذي يتهدد مستقبل كرتنا الأرضية، والمتمثل في ظاهرة التسخين الحراري وخطورتها على البيئة، وقبل كل شيء ركز كلود لوريوس على مسؤولية الإنسان في إحداث هذا التسخين المدمر. تجلس في قاعة السينما الضخمة بين القلة التي يجذبها هذا الفيلم الجاد، وتلاحق مقطوع الأنفاس صراع الإنسان -خليفة الله في الأرض، هذا الكائن الضعيف في بنيته ،القوى في عزيمته- يخترق في المجهول، بين ثلوج تدفن الجرافات وتعجز عن قهر هذا البشري العملاق. بشر يصمدون في حجرات يبنونها تحت طبقات الجليد، ويقيمون فيها لأشهر وسنوات مضحين بحياتهم العائلية والمدنية المرفهة وذلك في سبيل أن يتمموا دراستهم للطبيعة القاسية حولهم، بشر يتمثلون في كلود لوريوس وفريقه يصمدون في طبيعة لا ترحم، حيث يصير تبديل الثياب عذاباً حين ينهشهم البرد، وحيث ينتفي مفهوم الاغتسال حيث لا ماء، فلا تغسل الثياب وإنما يلقى بها وتستبدل بأخرى نظيفة، حرارة تبلغ الستين تحت الصفر لا تثني هذا العَالِم الرائد وفريقه عن المضى في البحث والتنقيب في جوف الثلوج المغطية للقطب، وتدفعك للتساؤل عما تراهم يبحثون وما أهمية ما سيتوصلون إليه مهما كان؟ وما إذا كان يستحق كل تلك التضحيات والعناء؟ مضى كلود وفريقه بعيداً عن الشهرة والأضواء متكرساً يبحث ويعلي صوت الأرض التي تستغيث من إنسانها، حتى انضمَّتْ له في سنواتٍ لاحقةٍ فِرَقٌ أميركية وسوفيتية بحفَّارات متقدمة مكنتهم من الاختراق لما يزيد عن الثلاثة كيلومترات بجوف القطب، ليستخرجوا إسطوانات من الثلج هي بمثابة كتاب جليدي، كل طبقة منه بسمك عشرة سنتمترات تفضح ممارسات الإنسان خلال عام، رجوعاً لأربع مئة ألف عامٍ من تاريخ البشرية. تجلس في قاعة السينما وتشعر بالفضيحة التي يعلنها الجليد، ذاكرة الجليد التي لا تغفل شيئاً مثل آثار أول قنبلة ذرية قام الإنسان بتفجيرها، تراها جلية محفوظة في طبقات الثلج، كتاب الجليد يتحدث عن سكينة في ممارسات البشر في بدايات تاريخ هذاا لكوكب، لا تلبث أن تنقطع تلك السكينة وتتعكر فجأة منذ القرن التاسع عشر لتبدأ صفحات متسارعة من الدمار، وتأخذ تتسارع في السنوات الأخيرة معدلات التلوث التي يقرأها الثلج ويحفظها كإدانة لجشع البشرية، آثار تلوث يتزامن مع زيادة معدلات التصنيع الذي لا يحترم البيئة، صفحات في آثار الجشع على كوكب الأرض. ترقب محاولات كلود المستميتة لإنذار العالم والوصول لتوعيته لوقف عمليات الاستنزاف بلا فائدة، لعقود ظل كلود ينادي ويستصرخ الهمم والوعي البشري بلا مجيب، بل وتعرض لتشكيك وحرب من قبل شركات كبرى تتعارض مصالحها الاستنزافية مع محاولات إنقاذ الكوكب، حتى تصاعدت نتائج التصحر والكوارث البيئية من فيضانات وزلازل وأعاصير وانهيارات أرضية وتعرية الكوكب من غطائه النباتي الحامي وما قادت إليه من مجاعات وتهجير و إبادة، تَصَاعُدٌ بمعدلاتٍ مُفْزِعَة هي بسبيلها لتقود البشرية للفناء أو محاولة التوصل لخطة إنقاذ شاملة وجادة، لم يملك العالم إلا التوقف لمناقشة فكرة الإنقاذ، وهو ما نراه الآن من تصميم قادة العالم على اللقاء في قمة 21 والمنعقدة في باريس بداية من 30 نوفمبر الى 11 ديسمبر 2015، المؤتمر الذي تدعو له منظمة الأمم المتحدة لمواجهة تغييرات المناخ المهددة للأرض، وتتصاعد في الاستعدادات لتلك القمة وعودُ الدول -مثل الصين التي تعد أكبر مصدر تلوث للبيئة- بالالتزام بخطة دولية لوقف الممارسات المُهَدِّدة للكوكب. فيلم الثلج والسماء يُوَجِّه الأنظار لهذا التزامن بين النداءات لقمة 21 التي ستعقد في باريس مع هذه القوى التي تهدف لتدمير السلام العالمي، لكأنما قوى السواد تتضافر لدمار كوكبنا مما يتطلب وقفة من البشر عامة لمواجهة هذاالتهديد النابع من الداخل أكثر من من الخارج، توق كمينٌ للانتحار وللدمار يتضح في ممارساتنا كبشر وهذا الجشع الذي نستنزف به كوكبنا، ويتطلب وقفة إنقاذ ليس فقط من الدول وإنما من الأفراد عامة بصفتهم مسؤولين بالدرجة الأولى. وكما يؤكد كلود لوريوس في خطابه الذي يختم به الفيلم: "نداءات التحذير ليست بهدف إنقاذ نفسي أو الحصول على فائدة من أي نوع، جل اهتمامي ينصب على أبنائنا، على مستقبل البشرية، على الإرث الذي نخلفه للأجيال القادمة، وهذه البيئة التي نتركهم يواجهون انهيارها وكوارثها". رجل قضى 62 عاماً منذ كان في الثالثة والعشرين من العمر وحتى الآن وبلوغه الثانية والثمانين من العمر في الدفاع عن قضية لا تزال الإنسانية تتجاهلها مفتقرة لوقفة صادقة لمواجهتها، متحملة الكوارث المتلاحقة بكرتنا الأرضية والتي تتصاعد نتيجة لهذا التميع في تحمل مسؤوليتنا كبشر تجاه كوكب يمنحنا الحياة ونمنحه الدمار.