اشتباكان حاميا الوطيس، معقدا الخيوط، ملتبسا التعريف، غامضا التكوين، لكنهما محببان مقربان مفضلان محميان من قبل ضحاياهما ومحبيهما، وكذلك من أعدائهما. اشتباك تاريخي بين الدين والسياسة، وآخر شعبي بين الجيش والسياسة، وكلاهما متأرجح متذبذب وفق الظروف والأحوال والمستجدات والمتغيرات بين حب شديد بدافع الثقافة والتنشئة والواقع، وتشكك رهيب تحت وطأة رياح عاتية بعضها أتى محملاً برغبات التغيير وبعضها هب واعداً ومتوعداً بتغيير في التفسير وتحوير في التحريم وتبديل في المفاهيم. ومنذ تبدلت مفاهيم المصريين في ما يتعلق بشؤون الدين، حيث جماعات دينية متولدة من رحم انشغال الدولة ببناء المنتجعات المغلقة، وإطلاق أيادي المدارس الدولية، وتيسير إجراءات الجامعات الخاصة، وأحاديث الصالونات عن المرأة السفيرة والوزيرة والقاضية، وأخرى متفجرة بفضل رعاية الدولة لها باعتبارها أداة سياسية لضرب الخصوم ودرء الأخطار، وثالثة هبت عبر البحار ومن خلف الأسوار مالئة فراغاً تركه الأزهر قبل عقود، بات الاشتباك مفزعاً والخلاص متعباً. فشيخ الزاوية هو الأعلم بأمور الدين والدنيا، والجار الملتحي هو الأبلغ في شرح الفتاوى وتفنيد الأحكام وشرح الأحاديث حتى لو كان نجاراً أو سباكاً أو بناءً. واليوم، وبعد ما يزيد على أربعة عقود من تغييب دور الأزهر في الشرح الديني والتفنيد الفقهي، وارتماء القاعدة العريضة من البسطاء في أحضان الجماعات التي قدمت الخلاص من عذاب الدنيا تارة بمساعدات مادية وصحية وسكنية وكسائية، وتارة أخرى بوعد دخول الجنة لأنها وحدها من تمتلك الصكوك ومن تحتكر قواعد الدخول، يبدو فك الاشتباك بالغ الصعوبة متناهي التعقيد. هذه الأزمة عقّدها سائق الأجرة أكثر بشرحه المفعم بالبساطة والحنكة في آن: «اعتمدنا على أولئك (الجماعات ومشايخها) على مدى سنوات في تحديد الرجل التي ندخل بها الحمام، والمدرسة التي نلحق بها الأولاد، وربما عدم إلحاقهم من الأصل في حال كانت بعيدة للبنات أو مختلطة مع الصبيان، فكيف يأتي من يتوقع أن نفصل بين الدين وتفاصيل حياتنا اليوم؟! نحن في وضع صعب». صعوبة الوضع الآني تكمن في فطام فجائي وجدت قطاعات عريضة من المصريين نفسها في حاجة ماسة إليه، بعدما تبدى وجه «الناس بتوع ربنا» على حقيقته، وظهر قلب الجماعات بلا رياء، وتجلت شهوات «الإخوان» السلطوية الاستحواذية الإقصائية من دون تجميل. أستاذ العلوم السياسية الذي وجه نداء إلى رجال الدين بأن «يستحوا» وينأوا بأنفسهم عن تجييش المصلين (مسلمين أو مسيحيين) من أجل التصويت بـ «نعم» أو «لا» على الدستور، وطالب الجامعة الذي أقسم بأنه في حال لوّح خطيب الجمعة بالتصويت بـ «لا» فإنه سيصوت بـ «نعم» والعكس صحيح، وبائعة الخضروات التي دعت على «أم صهيب» التي قادتها إلى «رابعة» حيث الإقامة «فول بورد» (كاملة) وثواب نصرة الإخوة المظلومين وجنة خلد تنتظر المرابطين في الميدان بعدما ضربها أحد صبيتهم وقلب لها «مشنة» الليمون لأنها أصرت على عدم إفساح الطريق أمام إحدى مسيرات «الشرعية والشريعة»، جميعهم فطنوا إلى مغبة زواج المتعة الذي جمع بين الدين والسياسة في مصر على مدى عقود. وعلى مدى عقود، أو بالأحرى قرون، تغلغل الجيش المصري في النسيج الشعبي والوطني المصري في شكل جعل فرضية فك الارتباط التاريخي أو تشكيك أيهما في الآخر أو فصل أحدهما عن بقيته، أمراً أقرب إلى الجنون. فالجيش النظامي الأول والأقدم في تاريخ البشرية، وتحديداً منذ وحد مينا قطري مصر في العام 3200 قبل الميلاد، لا يشعر بإهانة من شخبطات «الإخوان» على جدران منشآته اليوم الناعتة إياه بالخيانة والواصمة لجنوده بالخنوع والمنددة بقائديه لانقلابهم على أمير المؤمنين، وذلك لأنه يعرف أنه جيش مصر المكون من أبنائه من أجلهم. «لسبب ما لا أعرفه أشعر بأن شتائم الإخوان المنصبة على الجيش والتي تستخدم ألفاظاً غير مستخدمة مصرياً مثل شبيحة وكتائب وميليشيات وغيرها، حملة أجنبية على مصر كلها. مساكين لقد جن جنونهم»، هكذا يلخص رجل ستيني شتائم «الإخوان» ولعناتهم المصبوبة على الجيش المصري. ويضيف أن «حكاية حكم العسكر وضلوع الجيش في السياسة ويسقط يسقط حكم العسكر، أساطير صنعتها الجماعات المتضررة من فضح نوايا الحكم الديني وصدقتها قواعدها». قواعد الجماعة وحلفاؤها الذين أقنعهم مشايخهم وكوادر جماعاتهم بعد 30 حزيران (يونيو) الماضي بأن الجيش يعني الكفر، وأن عبدالفتاح السيسي يعني الخروج على شرع الله وأن الضباط علمانيون، وأن الجنود يهدمون الدين والشريعة، يقفون في عراء تخوين المؤسسة العسكرية ومعهم بعض الحقوقيين والناشطين الذين يعيدون تدوير هتاف «يسقط حكم العسكر» هذه الآونة، وكأنهم في صراع مع منظومة ثقافية وشعبية وحياتية قوامها أن «الجيش والشعب يد واحدة» فعلاً لا قولاً. غير أن هذه المنظومة لا تقنع قطاع «الربعاوية» ممن أصابهم مس جعلهم يصدقون أن مرسي «أمير المؤمنين» وأن «السيسي يهودي» وأن «الجيش والشعب والشرطة يد وسخة»، وهو المس الذي أقنع تلك القواعد في مصر في العام 2013 بأن المدافعين عن الجيش كفار، والمؤيدين لإزاحة «الإخوان» عن كرسي الحكم زنادقة، وشيخ الزاوية المنادي «حي على الجهاد» عالم دين، وكادر الجماعة الرافع شعار «رابعة» له السمع والطاعة، والشرطة المفرقة للمسيرات بلطجية، والجيش المؤمن للشعب شبيحة، وأفراد الشعب الرافضين لهم عبيد خارجون على الدين. الخروج على الدين يقابله في الجهة الأخرى الخروج على الجيش. ولأن المصريين يحبون أن يصفوا أنفسهم بأنهم «شعب متدين بالفطرة» يجدون أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه حين يخالجهم شك بأن عدم اتباع نصائح الشيخ فلان أو الامتثال لفتاوى الشيخ علان فيه شبهة حرمانية. وبفضل علاقة المصريين بالجيش، فإن هتاف «يسقط حكم العسكر» يربكهم ووسواس «الجيش خائن» و «قاتل» و «كافر» يشيط غضبهم. وإذا أضيف إلى ذلك أن بعضهم لا يضيره جلوس عسكري على كرسي الرئاسة، وبعضهم لا يفهم حكاية «الحكم العسكري» ولا يعي مسألة «الحكم المدني» ويجد نفسه في حيص بيص إبان الحديث عن «الدولة المدنية» في مقابل «الدينية» أو «العسكرية» أو كليهما، وتناحر النخب في تفسير هذا وذاك، ومحاربة هذه وتلك، فإن دجل «أمير المؤمنين» الذي يحكم على الأرض في الألفية الثالثة، وشعوذة رؤى رجال يدّعون الدين وفتاوى مجاذيب يتظاهرون بالمعرفة يبدو وكأنه فك اشتباك بين الدين والسياسة، واصطناع التصادم بين «يسقط حكم العسكر» وحب العسكر، و «الجيش والشعب يد واحدة» أو «يد وسخة» يبدو كأنه فك اشتباك يستدعي إما كراهية الجيش وهدمه، أو الارتماء في أحضان الحكم العسكري. إنهما الاشتباكان الأصعب والأعتى والأكثر التباساً!