لم يتوقف كفاح الفلسطينيين من أجل استرجاع حقوقهم وتثبيت هويتهم الوطنية منذ أن اغتصب الصهاينة أرضهم وأعلنوا قيام كيانهم الغاصب في 1948. لكن هذا الكفاح اصطدم باستمرار غياب استراتيجية التحرير، وغياب المشروع الوطني القادر على زج كل الفلسطينيين في بوتقة الكفاح من أجل تثبيت حق العودة وتحرير القدس الشريف وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة. أثبت الشعب الفلسطيني صلابة موقفه وثباته في التمسك بحقوقه، ومن أجل ذلك فجر في العقود الثلاثة الأخيرة ثلاثة انتفاضات اتسمت بالبسالة والجرأة، وكان الأروع والأبهى بين تلك الانتفاضات انتفاضة أطفال الحجارة في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم. وقد كانت مثار اهتمام العالم وإعجابه بما مثلته من تنظيم دقيق وصمود أسطوري، أجبرت رئيس الأركان الإسرائيلي مناحيم بيجن إلى الاعتراف بالقول إنه تمكن من هزيمة الجيوش العربية في أكثر من أربعة حروب رئيسة، لكنه لم يتمكن من القضاء على انتفاضة أطفال الحجارة. كانت انتفاضة الأقصى هي الثانية بين الانتفاضات الثلاث، وتميزت بالعمليات الاستشهادية، لكنها وقعت أسيرة للصراع المرير بين حركة فتح في رام الله وحركة حماس في قطاع غزة. فكان أن ذهبت التضحيات الجسام أدراج الرياح بفعل الانقسام بين القيادات الفلسطينية. والواقع أن وعد بلفور 1917 شكل نقلة نوعية على صعيد اكتساب الصهاينة أرض فلسطين، وقد شكل تناقضا واضحا للنتائج التي تمخضت عنها مراسلات مكماهون مع العرب. إلا أن اتفاقية سايكس- بيكو أعطيت الأولوية في التنفيذ بعد نهاية الحرب العالمية الأولى مباشرة. وقد منحت هذه الاتفاقية المشروعية الدولية عندما صادقت عصبة الأمم في 24 يوليو 1922 على الانتداب البريطاني لفلسطين وشرق الأردن، والذي عنى في نتائجه تمكين بريطانيا من الوفاء بوعدها تجاه الصهاينة. وقد كان وعد بلفور 1917 هو التأييد الرسمي الأول من إحدى القوى العظمى للادعاءات الصهيونية في فلسطين. لقد سهل وعد بلفور الهجرة اليهودية لفلسطين، وبمرور الوقت ثبت المهاجرون اليهود أقدامهم فيها بحيازة مواقع اقتصادية هامة. ولقد أعطت السلطات البريطانية دعما كبيرا للوجود اليهودي في فلسطين، مدعية أن ذلك لن يكون على حساب تشريد أو قهر السكان الفلسطينيين. لكن من غير الممكن تصور كيفية تأمين هذا المبدأ مع تحقق هجرات يهودية واسعة في فلسطين. استمرت الهجرة اليهودية بالتدفق، كما استمر تدهور العلاقات بين الفلسطينيين والقادمين الجدد. وكنتيجة طبيعية لذلك فقد كان على الفلسطينيين أن يتصدوا في آن واحد لسلطات الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني لإقامة دولة يهودية في فلسطين. لم يكن التوازن في هذا الصراع لصالح الفلسطينيين العرب. فالفلسطينيون في صراعهم مع الصهاينة لم يكونوا مفتقدين للتنظيم والقيادة المقتدرة فقط، ولكنهم كانوا ممزقين إلى عشائر ومجاميع صغيرة. ولذلك فإن غياب التنظيم ووحدة العمل قد جعل تحقيق الهدف الفلسطيني في الاستقلال ومنع الهجرة اليهودية إلى فلسطين أمرا غير ممكن التحقق في مثل تلك الظروف. وكانت نتيجة ذلك أن كثيرا من الاحتجاجات والانتفاضات الفلسطينية ضد البريطانيين وحركة الهجرة اليهودية في نهاية الثلاثينات انتهت بنتائج مأساوية. في 1947 عقدت بريطانيا النية على التخلي عن انتدابها لفلسطين، وطلبت من الأمم المتحدة معالجة الصراع اليهودي العربي في فلسطين. وفي 3 سبتمبر 1947، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 181 المتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية. وقد نادى القرار بتقسيم فلسطين إلى ثلاثة أقسام: الشطران الأوليان يقسمان بالتساوي بين الفلسطينيين الذين كانوا يشكلون آنذاك 70% من التعداد الكلي للسكان واليهود الذين لا يشكلون أكثر من 30% من سكان فلسطين. أما الشطر الثالث فيضم مدينة القدس، وستجري إدارته بنظام دولي. رفض العرب، والفلسطينيون بشكل خاص، هذا القرار. حيث لم يأخذ مخطط التقسيم بعين الاعتبار نسبة التعداد السكاني للشعب الفلسطيني. ولأن الفلسطينيين في غالبيتهم اعتبروا المهاجرين الجدد من اليهود إلى فلسطين في حكم الأجانب الذين لا يملكون الحق في الإقامة الدائمة على هذه الأرض. وفي 14 مايو 1948 أعلن اليهود من جانب واحد قيام دولة إسرائيل. وقد رفضت الحكومات العربية الاعتراف بهذه الدولة. واندلعت الحرب مباشرة بين العرب والدولة الصهيونية. وقد انتهت تلك الحرب بهزيمة للجيوش العربية، وكانت حقا نكبة واجهها الفلسطينيون والعرب جميعا. وقد نتج عن تلك الحرب تشرد ما يقارب من 775000 من الشعب الفلسطيني إلى الأقطار العربية المجاورة، وبقاء أقلية من الفلسطينيين تحت وطأة الاحتلال العسكري الإسرائيلي المباشر. وهكذا انتهى الفصل الأول في مأساة الشعب العربي الفلسطيني، لتتبعه فصول أخرى أكثر قسوة ومعاناة، وأشد مرارة. والنتيجة الطبيعية أن الحلم الصهيوني في اغتصاب فلسطين وإقامة وطن قومي لليهود على أرضها قد تحقق بقيام دولة خاصة بهم، بينما لم يتمكن الفلسطينيون من تحقيق حلمهم في تحرير فلسطين وإقامة دولتهم المستقلة فوق ترابها. لم يتمكن الفلسطينيون من استلام زمام أمورهم بأنفسهم إلا بعد نكسة يونيو 1967، حيث تصاعد النهوض الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وتواصل مع نهاية الثمانينات بانتفاضة أطفال الحجارة، ومع بداية هذا القرن شهدت تلك الأراضي انتفاضة الأقصى، والآن تمر الضفة والقطاع بظروف نهوض مماثلة. لكن غياب البرنامج والافتقار للقدرة على إدارة الصراع لم يمكنا تلك الهبات والانتفاضات من تشكيل رصيد حقيقي يسهم في عملية التحرير. ويبدو التناقض واضحا بين استعداد الفلسطينيين على البذل والتضحية، وبين وعي القيادات الفلسطينية بأهمية استخدام هذا الرصيد. فالهبة الشعبية الحقيقية التي تمر بها الأراضي المحتلة الآن ينبغي رفدها بوجدة فلسطينية. فليس من المعقول أمام هذه التضحيات أن يستمر انقسام القطاع عن الضفة وأن تستمر الصراعات بين قيادتي فتح وحماس. لا بد من مصالحة فلسطينية على قاعدة الالتزام ببرنامج سياسي يقود إلى تحرير فلسطين وإقامة الدولة الفلسطينية، وإلا فإن التضحيات الكبيرة للشعب الفلسطيني ستذهب أدراج الرياح.