من الطبيعي أنه عند البحث في جذور التطرف فأول ما يخطر على ذهن الإنسان هو التعليم، على اعتبار أنه المصنع الذي تُكتَسب فيه المعارف والأفكار وتتبلور فيه المبادئ والقيم، ثم يُبحث في بقية الأسباب، ومع ذلك فقد لا يُعجب البعض الربط بين التعليم والتطرف بأي شكل من الأشكال، ويحاول إنكار ذلك -ابتداء- فلا يلبث أن يحاول مع كل نقاش في هذا الموضوع اجترار تلك العبارة المغرقة في الاغتباط: (إن مناهجنا خرَّجت علماء كبار، ورجال دولة مخلصين)، ومع أني لا أُنكر أن هذه العبارة لا تخلو من الصواب، إن لم تكن كلها صواب، غير أنها ليست كافية في النفي والتبرير، لأن الناس ليسوا جميعاً على نفس الدرجة من الفهم والاستنتاج واستخلاص الأحكام، وليسوا على ذات الدرجة من الإخلاص والتضحية في سبيل ما يؤمنون به من أفكار، خصوصاً إذا ما علمنا أن كثيراً من المفاهيم التي يتعلمها الطلبة في مدارسهم لا تكون نتيجة لتفكير عميق وعصف ذهني مركز، إنما تُقدَم لهم في العادة كوجبات جاهزة لا تتطلب أكثر من التهامها والتمشدق بها عند أدنى نقاش معهم، دون النظر إلى محتوياتها وطريقة تركيبها ومآلاتها، كما أن قليلاً من البشر يصلون إلى أعلى درجات الإخلاص لأفكارهم، فيكونون على استعداد للتضحية بأنفسهم في سبيل ما يؤمنون به من أفكار، وذلك بتمثلها ومحاولة تطبيقها على أرض الواقع. فمع أننا جميعاً نؤمن بقيم الكرم والشجاعة والإقدام والأمانة والصدق، إلا أننا إزاء هذه القيم على درجات متفاوتة من حيث التطبيق والممارسة، فأكثرنا لا يتمثلها إلا في أضيق الحدود، وأقلنا من يؤمن بها إلى درجة التطبيق، فإن المعرفة لازمة ولكنها غير كافية في ترجمة الأفكار إلى واقع، ولعل هذا ما عناه المتنبي بقوله: ( لولا المشقة ساد الناس كلهم/ الجود يفقر والإقدام قتّال)، كما أن من الأفكار ما تكون مقبولة ما بقيت حبيسة إطارها النظري لضبابيتها وعدم وضوحها، لكنها حين تتحول إلى واقع فإنها تكون قبيحة لا يسع الإنسان سوى رفضها وإنكارها والتبرؤ منها، بل وقطع صلته بها قطعاً حاسماً، ولا يبقى مخلصاً لها إلا أولئك الذين وصلوا مرحلة متقدمة من طمس حقائق الموت والصور المرعبة، أو حصلوا على جرعات مكثفة من إنكار الذات وغسيل المخ، فتجد أحدهم يواجه هذه الحقائق بأدلة شرعية تؤكد أن الواجب على الإنسان ألا يتردد في تطبيق الشرع، وألا تأخذه في الله لومة لائم! لست أريد هنا أن أؤكد ولا أنفي، ولا أجزم ولا أستبعد العلاقة بين تعليمنا والتطرف، لكنني أستغرب هذا الاستعجال في النفي، والاغتباط بما لدينا من تعليم وكأنه وحي منزَّل من السماء، على الرغم مما نشاهده حولنا من سهولة انخراط شبابنا في الجماعات المتطرفة، وتصدرهم لقائمة المفجرين لأنفسهم في أكثر من مكان من العالم بما فيها المساجد ودور العبادة في بلدنا، فالإنسان لا يمكن أن يقدم على هذا العمل الإجرامي والحماسة في قتل أناس لا يعرفهم ما لم يكن قد حصل على وعد حاسم بدخول الجنة، ولولا اعتقاده الراسخ بمشروعية هذا العمل لما أقدم عليه بهذه الجرأة وهذا الإقدام، فمن المعلوم أن كل سلوك إجرامي وراءه فكر إجرامي، ومن شباب بعضهم لم يسبق له الخروج من الوطن، لكن هذا الاستغراب يزول حين نسأل أنفسنا: أو لم يكن مفهوم الوطنية ملتبساً حتى وقت قريب، كما أن الاحتفال باليوم الوطني لم تحسم مشروعيته لدى بعض المتشددين حتى الآن! ثم إذا افترضنا أن هذه التفجيرات مصدرها عدو خارجي، فهل كان سيسهل عليه اختراق شبابنا وتجنيدهم لمصالحه لولا أنه تسرب إليهم عبر منافذنا الثقافية والفكرية؟ ولماذا يستشهد الإرهابيون على مشروعية أعمالهم بنصوص مألوفة بالنسبة إلينا، وقد نستدل بها نحن أنفسنا فيما لو وقعت هذه الأعمال الإجرامية خارج الوطن؟! أذكر أنني حضرت محاضرة لقيادية في التعليم تتحدث عن الوطنية والوسطية والولاء، فكانت تدعو الحاضرين من القادة التربويين إلى أهمية أن يكون المواطن صالحاً محباً لدينه ووطنه وأمته وولي أمره، وتستدل على ذلك بتفعيل أسبوع المرور وأسبوع النظافة وأسبوع الشجرة! وقد كانت على وشك أن تستدل على الوطنية بمكافحة مرض كورونا لولا رحمة الله بنا! وهكذا ظلت معالجتنا للتطرف وطريقتنا في الدعوة إلى الوسطية وتعزيز الوطنية والولاء، على هذه الدرجة من السطحية والوعظ المباشر: (كن كذا ولا تكن كذا).