الحوار مفتاح العقول وبوابة المعرفة.. وفي ذلك المساء الذي سبق محاضرة وحوار وزير العدل الدكتور محمد العيسى تحت قبة البرلمان الأوروبي كنت أتساءل عن طبيعة هذه التجربة وصعوبة التعاطي مع أساطين الشؤون الخارجية في أوروبا خصوصا أن الحضور قد جاؤوا للمناظرة والمجادلة وليس مجرد الاستماع والتصوير البرتوكولي!.. لم أخفِ قلقي أمام الوزير لكن حماسه وقناعته بأهمية الحوار والمكاشفة منحتني الكثير من الاطمئنان.. الوعي بالعقل الغربي ومحدداته المعرفية كان الفصل الحاسم في نجاح حوار العدالة بل استثنائية نتائجه.. وقد تذكرت ما قاله ريتشارد إي ينبست المبحر في علم نفس المعرفة: إن نقاشاً مع أحد الباحثين الصينيين كشف لي الطريق إلى الوعي الغربي واختلافه.. حين قال: (الفارق بيني وبينك أنني أرى العالم دائرة، وأنت تراه خطاً مستقيماً!).. حوار العدالة كان مدركا لطبيعة العقل الأوروبي (الغربي) ولذا فإن سخونة الأسئلة وتعاقبها بصيغة مختلفة كان الوزير العيسى يتعاطى معها باعتبارها الخطوة تلو الخطوة في ذلك الطريق المستقيم نحو المعرفة.. فحين أبدى أحد أعضاء البرلمان الأوروبي تساؤله حول إمضاء القضاء المستند إلى الشريعة الإسلامية على غير المسلمين في المملكة.. أجابه الوزير: هل تقبلون في أوروبا أن يتحفظ المسلم على تطبيق مبادئ القانون الروماني أو الإغريقي حسب الدولة الأوروبية التي يقيم فيها والتي تستند في سن قوانينها إلى فلسفات ونظريات هذه القوانين.. كما يعلم الأعضاء الكرام فإن المسلم لا يؤمن بتلك الأيديولوجيات والنظريات الفلسفية.. لكننا ندرك أنه لا يحق له الاعتراض عليها ولا يسعه إلا الانصياع للقانون وحكم القضاء.. .لذلك أقول لكم إن القضاء السعودي يسري على غير المسلمين باعتباره دستوراً ونظام دولة إلا أننا في ذات الوقت ندرك خصوصية الأديان والمذاهب في الأحوال الشخصية. أحد الأعضاء كان ينتظر دوره بفارغ الصبر حين سأل الوزير حول حظر المملكة العربية السعودية لبناء معابد غير المسلمين على أراضيها.. ابتسم الوزير محمد العيسى مجيباً: هل سألت بابا الفاتيكان عن سبب عدم بناء المساجد أو أي معابد لغير المسيحيين الكاثوليك في أراضيه.. عاد العضو لينبه الوزير أن مساحة المملكة العربية السعودية لا يمكن مقارنتها بمساحة الفاتيكان الصغيرة جداً.. فعاد الوزير بابتسامة أكبر مداعباً العضو: سأجيبك إذا أخبرتني أنت هل عدم السماح ببناء المعابد في الفاتيكان يخضع إلى المبدأ أم المساحة؟!.. تنوع التفسيرات في النص الإسلامي ومدى التشتت الذي يحمله مثل هذا التنوع كان مثار سؤال لأحد الأعضاء أيضاً.. وقد أجابه الوزير: إن هذا التنوع في التفسيرات لا يعيب النص الإسلامي ولا يشتته بل هو مماثل لتنوع التفسيرات في النظريات والمبادئ الدستورية والنظامية، ومهمة القضاء في سياق سلطته التقديرية في التفسير والاجتهاد تكمن في توحيد الآراء والأخذ بالخيار الذي ترى العدالة أنه محقق لروح ومقصد النص وصولاً للهدف المطلوب وهو تحقيق العدل.. أخيراً لا أعتقد أن هذا المقال أو حتى ما سبقه في الجزأين الماضيين يمكن أن يلم بجوانب وأبعاد حوار العدالة الذي لا أبالغ بوصفه بأنه اتجاه جديد في الحوار والتواصل بين المؤسسة الدينية في المملكة والعالم الآخر.. وقد حاولت كعضو في وفد حوار العدالة أن أسجل شهادة شخصية لم ترو لي، بل باشرتها وعايشتها خلال حوارات ونقاشات ساخنة ومستفيضة في عواصم القرار الأوروبي المشترك أدار دفتها وزير العدل الدكتور محمد العيسى ممثلا لعدالة الوطن ومجلياً لكثير من سوء الفهم والظن الذي تراكم عن بلادنا في مراكز العدالة الأوروبية وقبلها الأمريكية. عبر تويتر: fahadalajlan@