لويس نيكولين عجوز فرنسي ينحدر من إقليم هيرولت في أقاصي الجنوب، وتحديدا من مدينة مونبيليه التي يسكنها أقل من ربع مليون إنسان، وتحتفظ المدينة بتاريخ قديم، يرتبط بالمسلمين الذين بلغوها إبان فتوحات الأندلس، وتشرف المدينة الصغيرة على الحدود الإسبانية غربا والإيطالية شرقا. .. حينما أسس العجوز نيكولين نادي مدينته مونبيليه، لم يكن قد تجاوز بعد عامه الثامن والعشرين، وظل وفيا للنادي، لم يغادر رئاسته بحثا عن الضوء والشهرة، ظل يطرد اليأس ويغذي الطموح ويزرع الأمل، طوال أربعين عاما يقاتل وسط الحيتان المفترسة مثل باريس سان جيرمان وموناكو، ولم يكن يتجاوز غالبا مراكز المؤخرة إلا إلى الوسط. .. قبل عامين بدأ الفريق الصغير القادم من أقاصي الجنوب الفرنسي في جندلة الخصوم واحدا تلو الآخر، وحين اقترب من لقب الدوري أطلق لويس وعده الشهير: "سأصبغ شعر رأسي بألوان النادي إذا حققنا لقب البطولة الفرنسية"، وفعلا نفذ وعده وظهر في يوم التتويج بشعر ملون بالأزرق والبرتقالي. .. مونبيليه نجح في الفوز بلقب الدوري الفرنسي، بميزانية تصل إلى ثمانية وثلاثين مليون يورو فقط، وهو ما يقل بأربعة ملايين عن صفقة انتقال الأرجنتيني خابيير باستوري إلى صفوف نادي العاصمة سان جيرمان في العام ذاته. عندما حمل لويس نيكولين كأس الدوري إلى مقر ناديه في الجنوب الفرنسي، وقف أمام صورته في مدخل النادي، وهو شاب مستقيم الجسد بلا زوائد، وحوله شبان الجنوب يبتسمون فرحين بافتتاح نادي مدينتهم، ثم قال: أربعون عاما مضت كأنها البارحة، كبر فيها مونبيليه وكبرت هذه، وهو يضع يديه على كرشته المتهدلة، وصاح في الجمع المحتفل: مونبيليه مدينة بطل فرنسا كلها، لقد نجحنا بعد أربعين خريفا. أربعون عاما، هي السنوات الفاصلة بين تأسيس مونبيليه على يد مالكه ورئيسه نيكولين، فيها الكثير من العمل والوفاء لمدينته الصغيرة وأهلها. أربعون عاما حولت الشاب الفرنسي الطموح إلى عجوز كبر وكبر معه حلمه، وجعلت منه نموذج وفاء وتضحية وعنوانا لكثير من المحاضرات الرياضية في أوروبا على مدى العامين اللاحقين. في الكرة السعودية، التي يتهافت فيها أهل المال على الأندية الكبيرة والأضواء والشهرة، غير آبهين بأندية مدنهم التي ولدوا وترعرعوا فيها، يمكن أن يكون لدينا أكثر من لويس، وأكثر من مونبيليه، متى ما تسلح هؤلاء بالتصميم والإرادة والوفاء. وخلال السنوات القليلة الماضية، ظهرت لدينا تجارب مقاربة لتجربة لويس ومونبيليه. ..وتشهد مسيرة الفتح في الدوري الممتاز، وتجربة حطين في دوري الأولى بذلك. الأول نجح في عبور كل المهام الصعبة من دوري الأولى، حتى استقر ثابتا في الممتاز، ثم نجح لاحقا في اقتناص بطولة الدوري كاسرا دائرة الستة الكبار، بدعم قوي من عائلتي الراشد والعفالق الحساويتين. أما حطين الآتي من أقاصي الجنوب، فأداره بكل حب وتضحية ودعم ابن جازان البار المهندس فيصل مدخلي، ونجح في أول عام له في الدرجة الأولى في تثبيت إقدامه والمنافسة على الصعود، وأظنه سيفعلها في مواسم قريبة. تجربة الفتح وحطين، والعروبة أيضا، يمكن أن نصدرها كنماذج حية ورائعة للعالم، نغذي من خلالهم الوفاء، كقيمة في نفوس النشء، ورجال الأعمال. ما الذي يمنع عائلة البلوي الثرية في تبني نادي مدينتهم الوطني، وعيد الجهني نادي مدينته ينبع، وآخرون في الشمال والجنوب والشرق والغرب، ومتى ما فعلوا ونجحوا سيكونون فعلا قد قدموا نماذج اجتماعية رياضية حقيقية، تؤثر شباب المدينة الأم على غيرهم، وتؤسس لقصة نجاح حقيقي محركها الأول هو الوفاء، لا الأضواء والشهرة.