وتمضي الحياة قدماً في مصر. يستيقظ المصريون صباح الجمعة وكل يخطط يوم عطلته الأسبوعية. هناك من ينتظر الأوامر لينطلق هاتفاً مندداً بما يطلب منه التنديد به، فيصلي الجمعة، ثم يتجمهر ويحتشد ويسير مع الإخوة والحرائر في «مليونية» مئوية يضع القادة عنوانها، وليكن «لبيك أم الشهيد» مثلاً عنواناً لها. وإن هتفوا «يا شهيد نام وارتاح واحنا نكمل الكفاح» هتف، وإن كان غير متأكد باسم أي شهيد يهتفون وأي كفاح يقصدون. وإن صاحوا «بيب بيب فين الأنابيب» صاح بكل جوارحه، حتى وإن كان بيته موصلاً بمواسير الغاز الطبيعي، ورغم أنف انتهاء الأزمة قبل أسبوع. ويطوف ويجول مع الطائفين والجائلين، صاعداً الجسور حيث يؤمنه الصبية على الجانبين مسلحين بالطول ومدججين بالأعلام الصفراء ذات الأصابع التركية، ونازلاً منها إلى عرض الشوارع حيث ينظر إلى قادة السيارات الناقمين على قطع الطريق في أعينهم، فيرى شفاههم تتحرك شاتمة منددة لكن لا يسمع، ويشعر بحنق المارة وغيظهم من تراجيديا الموقف حيث النساء في المقدمة يجاهدن في سبيل الله والرجال في الخطوط الخلفية، لكنه يصنف الحنق باعتباره حنقاً علمانياً، ويصم الغيظ على أنه غيظ معادٍ للإسلام. ويبارك المشاركون والمشاركات كفاح الصبية المؤمنين في «مليونية لبيك يا أم الشهيد» والتي يفاجأون بتحولها إلى «مليونية الحرية لحرائر الإسكندرية» فيستكملون الهتاف ويستأنفون الصياح ولا يمانعون في حمل لقب «أعضاء حركة سبعة الصبح»، وإن كانوا غير متأكدين مما حدث سبعة الصبح أو لماذا سبعة وليس تسعة أو عشرة مثلاً. وفي الوقت المحدد تنصرف الحرائر ويتفرق الإخوة عائدين إلى بيوتهم بعد يوم من الجهاد وساعات من الصياح اختفى خلالها محمد مرسي أو كاد، فالأوامر الصادرة تركز على ضرورة استثمار دغدغة المشاعر عقب مقتل طالب الهندسة، والتوجيهات المعطاة قوامها غلبة كلمات «القصاص» وشيوع ماديات «الأنبوبة» و «الجنيه المنهار» و «الرغيف المحتار» مع بذل الجهود لصبغ ذاكرة المصريين باللون الأصفر الزاعق وصباع الإبهام الغائر أمام هجمة أصابع «رابعة»، إلى حين إشعار آخر والدعوة لمسيرات جديدة لإعادة الكرّة التي قد تعيد «سيسي يا سيسي مرسي رئيسي» إلى بؤرة الجمعة أو تتحول نحو «لا لدستور الانقلابيين» في فعاليات «المليونية» المرتقبة أو تميل إلى الدق على أوتار «الحرائر» أو «الصبية» وفق معطيات يوم الجمعة. الجمعة نفسها تبدأ بداية انقلابية لدى بقية المصريين، فبعد تقصّي درجات الحرارة لتحديد نوعية النشاط النهاري والحركة الليلية، يتم تقصّي خط سير وأماكن تجمع «أنصار الشرعية والشريعة» أو «أنصار الشهداء والحرائر» أو «أنصار كسر الانقلاب والجيش والشرطة والشعب» لهذا اليوم، لتفادي الاحتكاك وحنقاً للدماء وحماية للأعصاب. فالتواجد وقت مسيرة «الناس بتوع ربنا» يعني إغلاق الطريق، وإقامة الصلوات وما يتبعها من سنن في عرض الشوارع، «ويا ويله يا سواد ليله» من يجرؤ على التذمر أو التكدر ناهيك عن الشكوى. «إذا كانت الشكوى لغير الله مذلة، فإن الشكوى من شل المرور وقطع الطريق وتعطيل الجسور بالنسبة إلى الإخوان تعني تعدياً باللفظ وأحياناً الفعل. تعلمت أن أتجنب مسيراتهم تماماً بعدما تصادف وجودي وسط إحداها قبل أسبوعين ولما تذمرت وصفوني بالانقلابي والعلماني وعدو الله! ولولا أنني تحكمت في أعصابي لحدث ما لا تحمد عقباه. والحمد لله أنهم انشغلوا عني وقتها بتكسير اللوحات الإعلانية ونزع بلاط الرصيف وتلطيخ جدران البيوت بعلاماتهم وعباراتهم الشاتمة للجميع». نجاة المواطن مصطفى السيد من مغبة مسيرة «الإخوان» في يوم جمعة تعني أن يوم الجمعة تحول من مجرد عطلة أسبوعية تعني الراحة والاسترخاء وزيارة الأهل وشراء المسلتزمات إلى عطلة أسبوعية لتخطيط سبل الكر والفر من مسيرات الجماعة وإعادة تخطيط زيارة الأهل بترحيلها إلى يوم السبت أو تحويلها إلى قضاء ليل الخميس لديهم والعودة صباح السبت، أو الاكتفاء بصلة الرحم عبر الهاتف و «فايسبوك». لكن يظل هناك من يتحلى بروح المغامرة ويتشبث بحبال الثورة، فبقايا شباب الثورة الذين مازالوا ثائرين وعلى مطالبهم مبقين يتعاملون مع يوم الجمعة باعتباره يوماً ثورياً، إن لم يكن بنزول الشارع تجنباً لركوب «الإخوان» فعالياتهم المنثورة كحبات العقد في رمسيس والجيزة ومدينة نصر والمعادي والعباسية وأمام قصر القبة، فبالدعوة إلى الحشد في التحرير وشبرا وإمبابة والشرابية وأمام الاتحادية، إن لم يكن يوم الجمعة، فربما السبت أو الأحد أو بحسب الفعاليات الثورية المتفجرة إما من رحم قانون التظاهر أو من جنبات دستور 2013 أو بالاشتياق الثوري إلى ربيع غابر أو نوستالجيا الميدان في تحرير حائر. وتظل حيرة غالبية المصريين مما آلت إليه أمور وشؤون وفعاليات يوم عطلتهم الرسمية كامنة تحت ركام حيرتهم من جموع «الإخوان». فاللغة غير اللغة، والإشارات غير الإشارات، والأولويات غير الأولويات، وحتى يوم الجمعة صار جمعتين. لغة «الحرائر» و «الدحر» و «الدحض» و «العسكر» و «الانقلابيين» و «العبيد» و «حكومة المنفى» لغة غير تلك التي يعرفها المصريون. وإشارات الأصابع الوحيدة المعروفة بين الشعب من علامة النصر إلى علامات الميكروباص المختلفة من «لف وارجع» إلى «أول الخط» إلى «دائري» إلى علامات بذيئة لا تعرف إلى الأصابع الأربعة سبيلاً. وأولويات المصريين العامة، وتلك التي يختصون بها يوم الجمعة من كل أسبوع لا تمتّ بصلة إلى أولويات «أنصار الشرعية والشريعة» حيث مسيرات الحب المنثور وهتافات ضد الجيش المحتل وتنديدات بالشعب العبيد وشتائم للشرطة البلطجية ونداءات لتحرير حرائر الإسكندرية. وانتهى الجمعة أمس نهايتين. الأولى لجماعة تحلم بمسيرات الأحد المقبل وتخطط لتظاهرات الجمعة المقبل وتحلم بما سيحلم به قادة الأفرع وحكماء التنظيم، والثانية لشعب يحلم بانتهاء للمسيرات وإيقاف للتظاهرات ووأد لأحلام الجماعة ما خفي منها وما بطن. ويخلد كلاهما إلى الفراش، لا الأول على قناعة بأن عبدالفتاح السيسي فعلياً شخصية العام على مجلة «تايم» فهو لا يرى في السيسي إلا أنه من أجهض مشروع الجماعة وسجين «مرسي رئيسي»، ولا الثاني يرى علاقة من قريب أو بعيد بين مرسي ومانديلا بعدما غردت «الإخوانية» عزة الجرف الملقبة إعلامياً بـ «أم أيمن»: «مات نيلسون مانديلا المناضل والزعيم! فك الله أسر المناضل محمد مرسى مانديلا العرب والمسلمين»، إذ لا يرى في مرسي سوى «استبن» جاء بالصدفة إلى كرسي الرئاسة وفرق عن قصد صفوف المصريين بين جمعة مسيرات وتعطيل وجمعة تجنب للمسيرات وتذمر من التعطيل.