لعب رباعي قادة المجتمع المدني التونسي الفائز بجائزة نوبل للسلام الجمعة الماضي دورًا مهمًا في نجاح الثورة التي وصفت بالديمقراطية والمؤسساتية حتى الآن، غير أن دورهم لم يعد على نفس القدر من الحسم الذي كان عليه القادة الذين حموا البلاد بدءًا من احتجاجات الربيع العربي حتى انتخابات الجمعية التأسيسية، أو حتى درجة حسم الأعضاء المنتخبين في المجلس التأسيسي الذين صاغوا واعتمدوا دستورًا ليبراليًا ديمقراطيًا للبلاد. أفضل طريقة تفكر بها في هذا الأمر هي أن لجنة «نوبل» أرادت مكافأة الشعب التونسي على أنهم الشعب العربي الذي نجح في تطبيق الديمقراطية بعد الثورات التي قلبت المنطقة رأسًا على عقب عام 2011، واختارت اللجنة قادة المجتمع المدني هناك كرموز لهذا النجاح، لكن في حقيقة الأمر الجائزة منحت للاستثناء التونسي. وباعتبارها انتصارًا لتونس كلها، فالجائزة مستحقة عن جدارة، إذ إنه لا شيء يفضي إلى السلام أفضل من إجراءات دستورية يقوم بمقتضاها ممثلون عن الشعب بالتشاور للوصول إلى إجماع بشأن القضايا المطروحة. وفي سوريا يعتبر الوضع أسوأ بكثير حيث لم يفرز الربيع العربي سوى حرب أهلية شعواء. كيف سارت الأمور بشكل صحيح في تونس إذن؟ لم تخطئ لجنة «نوبل» في اعتقادها أن المجتمع المدني ساهم بشكل كبير في توفير المناخ الذي ساعد على نجاح المفاوضات. لم يكن هناك أي معنى لكون المؤسسات الأربع - الاتحاد العام للعمال الذي يضم كثيرا من المعلمين، ونقابة التجاريين، ورابطة حقوق الإنسان، ونقابة المحامين - جميعهم ترعرعوا تحت ظل الحكم البوليسي لزين العابدين بن علي. ليست كل الديكتاتوريات سواء، حيث عملت الأنظمة التونسية حتى 2011 على قمع الحريات الأساسية واعتقلت وعذبت المعارضين، فاستوطن الفساد البلاد. لكن على عكس الديكتاتوريات في سوريا والعراق، أسست الأنظمة التونسية لعلاقة معقدة مع مؤسسات المجتمع المدني، حيث سمحت لهم بتنظيم كياناتهم مقابل السماح لهم بالتعايش مع النظام، فكنا نرى اتحاد العمال ينظم الاحتجاجات في ظل حكم بن علي، مما حدا بأنصار الاتحاد للقول إن اتحادهم هو الذي مهد الطريق لثورات الربيع العربي. وفي نفس الوقت، لا يمكن أن نعزو نجاح الاستثناء التونسي للمجتمع المدني وحده، فبعض الفضل يرجع إلى ثقافة التوافق والإجماع السياسي. من الصعب دائمًا تحديد أصل الثقافة السياسية، وعليه فإن حاجة تونس إلى الإجماع ليست استثناءً، غير أنه ربما من العدل أن نقول إن الفترة التي قضتها تونس في ظل الاحتلال الفرنسي ساعدت على خلق حس الوحدة الوطنية. فتونس دولة بالغة الصغر، وهو الأمر الذي يساعد على إيجاد نوع من الهوية الجمعية. ورثت تونس أول دستور بين كل الدول الناطقة بالعربية، حيث يعود دستورها إلى عام 1861. ورغم دهشتي من عدم إشارة الوفود المراقبة إلى تلك الحقيقة التاريخية، فإنها على الأقل تشير إلى أن فكرة تماسك النخبة في اتفاق جوهري فكرة ذات جذور عميقة في تونس. بيد أن أهم ملامح الاستثناء التونسي، التي تجاهلتها لجنة «نوبل»، هي أن مسببات الصراع بين العلمانيين والإسلاميين قد حُجّمت مرارًا عن طريق الحلول الوسط في كلا الجانبين، وكان راشد الغنوشي هو مفتاح ذلك الطريق. وفي كثير من اللحظات الحرجة، اختار حزب النهضة بقيادة الغنوشي تقديم التنازلات بدلاً من اللهاث لإيجاد دور إسلامي في الدستور. وفي أعقاب الاحتجاجات عام 2012، قرر حزب النهضة حذف الشريعة من مسودته الدستورية أو من آيديولوجيته، وبعدما تسبب اغتيال يساري بارز في مزيد من الاحتجاجات والأزمات السياسية، وافق حزب النهضة على الانسحاب من الحكومة. وبالنسبة إلى العلمانيين فهم كذلك يستحقون الثقة لمعاملتهم حزب النهضة كقوة ديمقراطية مشروعة. وتؤكد المقارنة مع مصر أهمية مثل تلك القرارات، إذ حاول الإخوان المسلمون الحكم من دون التفكير في حلول وسط، ورغم الاحتجاجات اندفع الإخوان المسلمون في طريقهم من خلال دستور اعتمد بأغلبية ضئيلة عجزت عن تحقيق الإجماع. عندها قرر المصريون يساندهم الجيش ألا يتفاوضوا مع الإخوان المسلمين للوصول إلى حل وسط، وقرروا إزاحتهم عن الحكم. لم يفز الغنوشي نفسه بـ«نوبل»، لكن ربما من دونه ما كان لتونس أن تفوز من الأساس. * بالاتفاق مع «بلومبيرغ»