في إطار تقليد مغاير لما درج عليه أسلافها السابقون، قررت ماريا زاخاروفا، الناطقة الرسمية الجديدة باسم الخارجية الروسية، أن تفتح أبواب خزائن معلوماتها أمام كل من يريد من الصحافيين والإعلاميين المحليين والأجانب، في جلسة مفتوحة صباح الأربعاء من كل أسبوع. في هذا اللقاء، يتبادل الحاضرون كل ما يعن لهم من أخبار أو شائعات أو هواجس دون تقيد بقواعد محددة أو تحفظات تند عن أي من الحاضرين. هكذا صرنا نحن معشر الصحافيين القدامى والجدد ندعو الزميلة الشابة، بعيدًا عن قيود وشكليات الرسميات والبروتوكول، صارت تحرص على أن تحضر مثل هذه اللقاءات مصحوبة بعدد معتبر من مرؤوسيها ومساعديها من موظفي إدارة الصحافة والإعلام لدى الخارجية الروسية، وهو ما كان في البداية لافتًا للأنظار. لكن المتابع لمجريات اللقاء سرعان ما يستوضح دوافعها التي تتلخص في أن يتولى كل من هؤلاء تفسير ما يدخل في اختصاصاته، أو تسجيل ما قد يحتاج إلى إجابة، أو توضيح رسمي يمكن أن تحمله ماريا في لقائها الدوري الرسمي أو ما نسميه «الإيجاز الصحافي - البريفنج» في موعده التقليدي بعد ظهر الخميس من كل أسبوع. في هذه الجلسات أو اللقاءات التي تبدو في بعض جوانبها أشبه بالدردشة الصحافية غير المقيدة بقواعد أو حدود، تتداخل التعليقات ويتكشف ما تضمره النفوس والضمائر، لتكشف عن حقيقة المواقف والانتماءات، بل والتوجهات. وفيها أيضًا تتقافز الأولويات لتفرض نفسها على ساحة النقاش. ولعلنا لا نبالغ حين نقول إن الأزمة السورية لا تزال تحتفظ بموقعها في صدارة الأولويات. ولِم لا وهي التي تتمحور حولها كل النشرات الإخبارية المحلية والعالمية، من منطلق كونها كانت ولا تزال تحدد ملامح ومواقف وسياسات الدول والزعماء، وتوجهاتهم، كما أنها تظل العلامة الفارقة التي تكشف عن مدى تباين ألوان وأطياف خريطة التحالفات الدولية والإقليمية. ومن هذا المنظور وبين طيات مثل هذا الإطار تحديدًا، تدور عجلة الحديث خلال اللقاء مع ماريا وبما يمكن أن نسميه اللقاء المفتوح أو حديث القلب دون أجندة أو جدول أعمال. وفي معرض الأحاديث والنقاشات تتقافز الأسئلة والتعليقات ساخنة تارة، ولاذعة تارة أخرى، ومتدفقة لا تحكمها ضوابط أو مواقيت تارة ثالثة، نستوضح مدى حقيقة ما يتطاير في أفق العلاقات الدولية والإقليمية من أخبار وشائعات. وفيها ومعها أيضًا نستعيد التاريخ، القريب منه والبعيد، مستعينين بذاكرة صديق، أو أرشيف الشبكة الدولية التي صارت اليوم الأوفى والأسرع والأكثر دقة وحيوية بالنسبة لأبناء المهنة وكل من يحاول الانتساب إليها. وهنا تحديدًا تتدافع إلى الذاكرة ما تطاير في حقنا نحن قدامى الصحافيين ممن كان لهم شرف الانتماء إلى «مجموعة صحافيي الكرملين» في أزهى عصوره مع بداية سنوات «البيريسترويكا والجلاسنوست» في منتصف ثمانينات القرن الماضي، من اتهامات وانتقادات وتعليقات حول «تواضع الإسهامات»، و«ضآلة الإنجازات»، على حد زعم البعض من «المتطفلين» على «مهنة المتاعب»، رغم أن هذه الإسهامات طالما تلقفتها الملايين في حينها في إطار شغفها باستيضاح معالم ما كان يجرى وراء الأسوار الحديدية آنذاك. ولعل القاصي والداني يستطيع أن يتوقف برهة ليتخيل كيف كان إعلاميو ذلك الزمان يعملون في موسكو آنذاك دون وسائل الاتصالات الحديثة التي ينعم بها أبناء اليوم. وكيف كانوا يجِدُون ويجتهدون من أجل نقل ما كان يدور وراء الأبواب الموصدة قبل انفجار «ثورة الجلاسنوست»، ومن دون مساعدة شبكات الإنترنت والفضائيات وانتشار المتحدثين الرسميين بأسماء كل الزعماء والمؤسسات السياسية والبرلمانية والحكومية؟ حول ذكريات ما كان عليه الحال في موسكو، تبادلنا التعليقات، حملتنا الذاكرة إلى سنوات لم تكن فيه حدود أحلامنا تتعدى «لقاء الثلاثاء» مع الراحل جينادي جيراسيموف، أول متحدث رسمي باسم الاتحاد السوفياتي، باسم زعيمه ميخائيل غورباتشوف ومؤسساته بما فيها وزارة الخارجية السوفياتية، كان جيراسيموف المتحدث الرسمي الوحيد في كل أرجاء الدولة السوفياتية المترامية الأطراف من الشرق الأقصى على ضفاف المحيط الهادي شرقًا، وحتى بحر البلطيق وجبال الكاربات غربًا. كانت المعلومات محدودة بما تنشره «البرافدا»، لسان حال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي. ولم يكن الصحافي في حاجة لأكثر من ذلك، لأن ما كانت تنشره «البرافدا» كان فرض عين لا بد أن تتناقله، بل وتنسخه الصحف الأخرى بما فيها «الأزفيستيا»، لسان حال السوفيات الأعلى؛ أي البرلمان. ولم يكن في مقدور ممثلي صحافة ما كان يسمى بـ«العالم الثالث» الوصول ببساطة إلى أروقة الكرملين أو مكاتب صانعي القرار. وكانت أيامًا نتركها وذكرياتها بكل حلوها ومرها لنعود إلى «لقاء ماريا». وهنا، نتوقف لنقول إنه ورغمًا عن غزارة مصادر المعلومات وتوفر شبكات وقنوات الاتصال الحديثة، تأتي «مكرمة ماريا»، و«لقاؤها المفتوح» ليكونا إضافة بالغة الأهمية لما تقدمه الخارجية الروسية ومؤسساتها، وفي مقدمتها إدارة الصحافة والإعلام في مجال توفير المعلومات الذي كان ولا يزال أحد أهم السبل لضمان موضوعية السرد والتحليل. وما دام الشيء بالشيء يذكر، يحضرنا هنا بعض الجدل الذي احتدم حول افتقاد الأوساط الرسمية الأميركية لأبسط قواعد وأركان الموضوعية لدى تناول بعض جوانب الشأن السوري. نذكر أن الحديث تطرق بالحاضرين إلى محاولات معرفة حقيقة الوجود العسكري الروسي في سوريا. وكانت وجهة النظر «الرسمية» أن ما تردده بعض وسائل الإعلام الأميركية ذات الشهرة الطاغية، ومنها وكالة أنباء «أسوشييتد برس»، مشكوك فيه ويدعو إلى الرثاء. وكانت «أسوشييتد برس» نشرت أخبارًا تقول بتدفق العسكريين الروس على سوريا، وهي الأخبار التي قالت ماريا إن الوكالة الأميركية استقتها من مصادر البنتاغون والخارجية الأميركية. ومضت ماريا لتقول إن موسكو كان يمكن أن تتقبل وجود ونشر مثل هذه الأخبار، ما دامت تظل بعيدة عن «الإطار الرسمي» للعلاقات الدولية. لكنها تصبح مثار دهشة حين تكون في «صُلْب» مكالمة هاتفية بين وزيري خارجية روسيا سيرغي لافروف، والولايات المتحدة جون كيري، قالت إن كيري استشهد بما نشرته «أسوشييتد برس» حين تساءل حول مدى صحة وأبعاد الوجود العسكري الروسي في سوريا، وهو ما يلقي بتبعات الموقف على كاهل المؤسسات الأميركية التي تطرح «الأكذوبة» وهي تعرف مدى تناقضها مع الحقائق على أرض الواقع، لتعود وتصدقها وتضعها في متن تساؤلاتها الرسمية. ولعل ما طرأ على المواقف الأميركية طيلة سنوات التعامل مع الشأن السوري من تغييرات تصل في بعض الأحيان إلى «طرفي النقيض» يقول بعدم عدالة الطرح والقصور المتعمد للرؤية والرؤى. وها نحن اليوم أمام توالي التصريحات من جانب كثير من قيادات «المنظومة الغربية»، ومنها جون كيري وزير الخارجية الأميركية الذي أعلن منذ أيام عن تراجعه عن الإصرار على الرحيل الفوري للرئيس السوري بشار الأسد، وقبوله بمشاركته في المباحثات حول التسوية السلمية للأزمة السورية، وهو الموقف نفسه الذي جنحت إليه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حين أعلنت عن ضرورة مشاركة الأسد في المباحثات المرتقبة حول هذه الأزمة. ولعلنا يمكن أن نتوقع موقفًا مشابهًا يمكن أن يصدر عن الرئيس الأميركي باراك أوباما في لقائه مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، رغم كل ما صدر عن البيت الأبيض من بيانات رسمية تقول إنه ليس في جدول أعمال الرئيس الأميركي متسع لمثل ذلك اللقاء. لكنه وبغض النظر عن كل هذه التناقضات والمتناقضات، فإن الواقع الراهن وما نشهده من محاولات جادة من أجل خلق أجواء إعلامية أفضل تسودها أجواء الثقة وإعلاء الموضوعية والاحتكام إلى أخلاقيات المهنة، بعيدًا عن مخاطر السقوط في شرك تلاعبات رجال السياسة ممن تحمل الكلمة عندهم أطنان المعاني والأطياف.