كان المغفور له بإذن الله الشيخ راشد حاكماً وحكيماً ورجل عمل، وكافح طول حياته من أجل شعبه ووطنه، وأحب لهما ما أحبه لنفسه ولأبنائه. وأوضح حمد بن سوقات أن الشيخ راشد كان ينام أربع ساعات فقط في اليوم، وكان يستغل باقي الساعات في العمل والإنجاز والسهر على خدمة البلاد والعباد، وكان يتصف بالأخلاق العالية مع الناس وأهله وجماعته، ولا يحب أن يمتاز عنهم بشيء ليس عندهم، وكان كريماً، ويرحم الفقير ويساعد الناس أينما تمكن. القليلون هم الذين رافقوا المغفور له الشيخ راشد بن سعيد، طيب الله ثراه، في أسفاره، وقد كان الشاعر الكبير الوالد الشيخ حمد بن سوقات من المرافقين المقربين له، إذ كانت تربطه به علاقة قوية جداً، ومن ثم رافقه في العديد من الرحلات الخارجية، وما زال يتذكر تفاصيل تلك الرحلات وكأنها شريط سينمائي تستحضره الذاكرة، لتوثق وتؤرخ هذه الرحلات، لتكون مرجعاً مهماً للباحثين على مدى الأجيال. يتذكر الوالد حمد بن سوقات أنه قام برفقة الشيخ راشد، رحمه الله، بزيارة إلى جلالة السلطان قابوس بن سعيد في صلالة، ومكثا نحو 3 أيام عنده، وبعدها رجعا، وقاما بزيارات إلى إيران أيام الشاه، كما ذهبا إلى مصر أيام أنور السادات، وفي عودتهما بالباخرة من لبنان، واصلا سيرهما إلى أوروبا، حيث زرا لندن، ورجعا إلى مصر، وذهبا لزيارة جمال عبد الناصر في بيته، واستقبل الشيخ راشد استقبالاً طيباً وتكلم معه. رخصة سنوية ويتابع الوالد حمد بن سوقات حديثه قائلاً: الشيخ راشد كانت عنده النزهة رخصته السنوية، يفضل قضاءها بالقنص، يقضي شهراً واحداً، وكنا عندما يتعسر الصيد في المنطقة نذهب إلى إيران وننزل في منطقة اسمها لنجة، ونسير بسيارات للبر، ونسكن هناك ونقنص، نأخذ شهراً ونصف الشهر، ونرجع إلى لنجة، وبعدها نذهب إلى باكستان مدة شهر، قبل أن نعود إلى دبي، يرتاح ويستأنس لسماع الشعر في رحلات القنص. سماع الشعر يقول الوالد حمد بن سوقات: كان المغفور له الشيخ راشد بن سعيد، طيب الله ثراه، يحب سماع الشعر، وربما لا يعرف الكثيرون أنه كان يحفظ شعراً للمتنبي، بل كان دائماً يردد بيتاً للمتنبي لا أنساه، يقول فيه: أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي كان دائماً يردد هذا البيت، خاصة عندما كنا نرافقه في رحلاته، وكان يستأنس في رحلات القنص، فقلت له يوماً بعد أن أحسست أنه معجب بشعر المتنبي، وخاصة هذا البيت، قلت له مازحاً: إني (سأسرق) بيتاً للمتنبي، وأنشئ قصيدة على منواله، فقلت هذه القصيدة على منوال ذلك البيت: زرت خلي في غياهيب الظلام قبل لا يغري بي الصبح المنير وانثنيت أمشي برفق واحترام لا يشوفني من العالم بصير يكشف أسرار مضت لي من عوام يصبح وصوله علي م العسير دون شوفك مول ما ياني منام لا تعذبني وأنا بك مستجير رحلة مهمة ويقول حمد بن سوقات: في عام 1963، قرر الشيخ راشد، طيب الله ثراه، أن الوقت قد حان لزيارة أميركا، بعد أن كان لزمن طويل يزداد إعجابه يوماً بعد يوم بالولايات المتحدة، وكان يستقبل من وقت إلى آخر مبعوثين سياسيين وعسكريين، يردون إليه من الضفاف الغربية للأطلسي، وتلقى العديد من الدعوات في مناسبات مختلفة، وتمنت عليه بإصرار شديد أن يقوم بهذه الزيارة شركة كونتيننتال الأميركية للنفط التي كانت قد فازت بامتياز للتنقيب البري عن النفط في دبي. ويقول: أبحرنا في مساء يوم 11 يوليو 1963 على الباخرة إسيريا في بيروت إلى إيطاليا، ومررنا بالإسكندرية، أقمنا بها 24 ساعة، زرنا فيها القصور الملكية، وتناولنا العشاء في قصر الصفا، ثم غادرناها في اليوم الثاني إلى نابولي، فمررنا بميناء سراقوسة في جزيرة صقلية، ثم وصلنا إلى نابولي صباحاً، وقضينا معظم النهار في أحد الفنادق، وفي المساء غادرنا على القطار إلى روما، فزرنا معالمها، من بينها كنيسة القديس بطرس في الفاتيكان، ثم واصلنا سفرنا بالقطار إلى سويسرا، ومررنا أو اخترق بنا القطار سلسلة جبال الألب المكللة قممها بعمائم الثلوج، أقمنا يومين في فندق بريزيدنت المطل على بحيرة جنيف الجميلة، ثم غادرناها، ثم يوم 19 يوليو وصلنا بالقطار إلى كاليه، فمررنا بباريس، وتناولنا الغداء في أحد فنادقها، بعد أن زرنا بعض معالمها، ثم واصلنا السير إلى كاليه. ووصلناها مساء، عبرنا بحر المانش إلى دوفر، ثم بالسيارات إلى لندن، فنزلنا في كارلتون تاور هوتيل، وفي يوم 25 أبحرنا من ميناء ساوث هامبتون على الباخرة كوين إليزابيث إلى نيويورك كوين إليزابيث، وكان طولها 1033 قدماً، وعرضها 118 قدماً، بها بناية تحوي 6 طوابق، وسوق بمختلف المبيعات، والبائعات سكسونيات، وبها 1200 بحار، وعلى ظهرها 2250 راكباً، وبها مصرف، وهو فرع ميدلاند بنك، وبها صالة سينما كبيرة، وبها صحيفة يومية هي أوقات الأطلسي، سرعتها 37 ميلاً، بها جهاز تليفون عالمي اتصلنا مرة بالشيخ مكتوم في دبي وناديناه تحية من المحيط الهادر، قطعت بنا المحيط في 5 أيام. وصلنا إلى نيويورك يوم 30 يوليو، وقضينا في أميركا أسبوعين، زرنا خلالها واشنطن وشلالات نياغرا المتاخمة لكندا. الوفد المرافق وصل الشيخ برفقة نجليه الشيخ حمدان والشيخ محمد وأحمد بن سليم وعيسى صالح القرق وحمد بن سوقات إلى نيويورك على متن السفينة السياحية الملكة إليزابيث في 30 يوليو 1963، وكان برنامج الزيارة يمتد أسبوعين، وضم زيارات إلى مبنى إمباير ستايت والأمم المتحدة والبيت الأبيض وسدّ هوفر، ثم قصدنا سلاسل جبال الروكي، ولا شك في أن الأميركيين جهدوا في جعل الزيارة تشمل عدداً من المعالم السياحية الكبرى، إضافة إلى الأماكن التي أبدى الشيخ راشد، رحمه الله، والوفد المرافق اهتماماً بزيارتها. طلب الشيخ راشد أن يزور المركز الإسلامي في واشنطن العاصمة، وهو من أكبر مساجد الولايات المتحدة آنذاك، كما أخذه مضيفوه لمشاهدة مشروع كبير للريّ الصحراوي في فينكس ـ أريزونا، وفي عام 1963 كان مشروع الريّ هذا أكبر المشاريع المماثلة في العالم. وكوّن الشيخ راشد انطباعاً إيجابياً جداً عن زيارته الأمم المتحدة، فقد استقبله عند وصوله رئيس قسم البروتوكول، وجال مطولاً في أرجاء السكرتاريا، مصحوباً بدليل يتكلم اللغة العربية. وقد وجد الشيخ راشد الزيارة بكاملها ممتعة ومفيدة، كما أورد ممثل البعثة البريطانية في الأمم المتحدة الذي رافقه خلال الزيارة. أما في واشنطن العاصمة، فتم الاتصال به من وزارة الخارجية، ودعي إلى إجراء محادثات مع المسؤولين، وقد أسعدته الدعوة، ورحب بها، وقيل له إن سيارة ستأتي إلى الفندق لاصطحابه، ولكن انتابه حَرَج شديد، ولا يدرك السبب إلا من يعرف كرهه الشديد للرسميات، وعندما خرج من الفندق وجد في انتظاره على المدخل موكب سيارات كالذي يُعدّ للرئيس جون كنيدي نفسه. قطع الزيارة لكن اللافت أن الشيخ راشد قرر بعد أسبوعين من التنقل براً وجواً، قطع زيارته والعودة إلى لندن من نيويورك على متن السفينة الملكة إليزابيث، ومن الوثائق المهمة برقية أرسلها إلى لندن القنصل العام البريطاني في نيويورك، يعلمها فيها بالعودة المبكرة للشيخ راشد، ورد فيها ما يلي: يبدو أن الحاكم لم تكن لديه فكرة واضحة عن المسافات الطويلة في الولايات المتحدة، وأنه لم يكن مستعداً للقيام برحلات جوية تستغرق هذا الوقت الطويل، وعلى العموم لم ينتابه إلى انطباع إيجابي عن رحلته بشكل عام، باستثناء الزيارة إلى الأمم المتحدة. مع أن هذا التقويم قد يكون صحيحاً للرحلة، كانت هناك نظرة مختلفة حول قطع الشيخ راشد رحلته قبل أوانها، وقد عبّر عن هذه النظرة أحد أعضاء البعثة البريطانية إلى الأمم المتحدة في نيويورك. فبعد تناوله العشاء مع الشيخ راشد، لاحظ أن الشيخ راشد كان واضح الانزعاج من وتيرة الحركة السريعة والضجيج اللذين تغرق فيهما نيويورك. حمد بن سوقات: بنى منطقة الراشدية ومنحني قطعة أرض أشار حمد بن سوقات إلى موقف الشيخ راشد من إنشاء منطقة الراشدية لراحة المواطنين وتوفير المساكن الملائمة لهم، موضحاً أن المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان كان معتاداً أن يقضي شهراً من كل شتاء في بيته في منطقة الخوانيج، في الستينيات من القرن الماضي، التي أوصل إليها الكهرباء، وربطها بدبي بطريق جديد، وكان الشيخ راشد يزوره كل صباح، ومعه مجموعة من رجالات دبي كنت بينهم. وتابع بن سوقات: أثناء عودتنا من مجلس الشيخ زايد صبيحة أحد الأيام، وعند المنطقة التي سميت الراشدية على اسم الشيخ راشد لاحقاً، طلبت منه أن أسكن فيها للاستفادة من الطريق والكهرباء اللذين نفذهما الشيخ زايد، وفي اليوم التالي اصطحبني الشيخ راشد في جولة بالمنطقة، ووقف في بقعة معينة، وقال: سأعطيك قطعة أرض هنا تنشئ عليها محطة بترول ومطعماً. وبعدها أمر بلدية دبي بتخطيط المنطقة، وبنى 100 بيت للفقراء ومحدودي الدخل من المواطنين، وكان ذلك في عام 1968، واستمر التوسع في المنطقة وزيادة وفود المواطنين لها عاماً بعد عام. وأشار إلى أن الشيخ راشد شجعه باستمرار وأعطاه الكثير، وكان أمر بإعطائه قطعة أرض في الجميرا، وأمر بنك دبي الوطني ببنائها واستيفاء قيمة القرض من أقساط الإيجار، وبناها المقاول سعيد بن أحمد بن لوتاه، حتى أصبحت البناية ملكاً خالصاً له. وقال بن سوقات: هكذا كان الشيخ راشد يشجع ويساند الجميع من مواطنين وتجار ورجال أعمال وغيرهم، موضحاً أن أعمال الشيخ راشد ظاهرة أمام العيان في كل مكان، كما أن الأجيال تتناقل شفاهة أعماله ومساعدته للمواطنين وأهل البلاد، كما أن إنجازاته تطل على مناطق الإمارات كافة. موكب انتقل الشيخ راشد إلى وزارة الخارجية راكباً في واحدة من أربع سيارات ليموزين سوداء، مع مجموعة كاملة من رجال الأمن الخاص بنظاراتهم السوداء، وثمانية أفراد من الشرطة على دراجاتهم النارية التي يسبقها ضجيج صفاراتها، من يعرف الشيخ راشد يدرك مدى انزعاجه حين رأى شوارع واشنطن تتوقف فيها الحركة لإفساح المجال لموكبه، وإشارات المرور تنفتح على اللون الأضخضر أوتوماتيكياً كي لا يضطر موقفه إلى التوقف. عادات يومية من عادات الشيخ راشد أنه كان يركب سيارته من الساعة 7 صباحاً، ويدور بالبلد ايحوط، يقول بن سوقات: ومرة أخذنا إلى منطقة هور العنز، وقال: سأعطيك أرضاً ابنِ بها شققاً ودكاكين، قلت: طال عمرك ما في أرض خالية، قال: أنت اعمل وما يهمك، قلت له: إن شاء الله، فأعطاني أرضاً، وبدأت بالبناء، وأثناء البناء ما نشوف إلا والناس يأتون، أولهم كان عيسى بو حميد وبدأ بناء أرضه، وبدأت أنا ومن بعد هذا استوت هور العنز، وخططوها، ومشت فيها شعبيات المواطنين الذين ما يملكون بيوتاً، أعطوهم، أنا كنت الوحيد الذي بنيت فيها قبل بأمر من الشيخ راشد.