أن تحيط بسرير الزعيم جمال عبدالناصر، وهو في لحظات لقاء رب كريم، فأنت ولاشك تملك لحظة تاريخية لا تتكرر لكثير من البشر. هكذا هو محمد حسنين هيكل الذي يملك من هذه اللحظات الكثير، خصوصا مع الزعيم الخالد، بحسب موقع مبتدأ المصري. هو وصف نفسه أكثر من مرة بأنه كان على علاقة حوار مع عبدالناصر استمرت منذ العام 1948 حين التقى به أثناء حرب فلسطين الأولى، وحتى رحيله في 1970. وقائع ليلة الرحيل بالذات، الاثنين 28 سبتمبر 1970، رواها هيكل في كتابيه عبدالناصر والعالم، والطريق إلى رمضان. وفيهما وصف دقيق لتفاصيل ما حدث في اللحظات التي تلت مؤتمر القمة العربية الذي دعا إليه عبد الناصر، بعد أحداث أيلول الأسود الدامية بين الفلسطينيين والأردنيين، حتى الوفاة، وترتيباتها. إلا أن أسباب الموت ومرضه بالسكر والضغط ذكرهما هيكل، فقال الجهد والعمل والقلق المتصل كلفه غاليا. فقد كان في هذه المرحلة رجلا قد حل به التعب وأنهكه المرض، فقد كان يعاني من مرض السكر منذ سنة 1958، وكنتيجة لمرض السكر أصيب بحالة موجعة من تقلص شرايين ساقيه. وطلب منه الأطباء أن يقلع عن التدخين. وكان عبد الناصر قد خضع بعد ذلك لدورة علاج بالمياه الحارة في الاتحاد السوفييتي، ولمدة ما شعر بتحسن كبير، ولكنه لم يستطع أن يلتزم حرفياً بالبرنامج البالغ القسوة الذي حدده له الأطباء، فعندما قالوا له إنه ينبغي أن يتجنب أي جهد جسماني أو عاطفي، أجابهم كيف يسعني ذلك، إن هذه هي حياتي كلها. يروى هيكل أن جمال عبدالناصر كان يرقد متمددا في فراشه بالبيجامة الزرقاء في حجرة نومه الواسعة، وقد أصيب بنوبته القلبية الثانية. وفي الساعة الخامسة من يوم 28 سبتمبر، كسر الزعيم تعليمات الطبيب بالراحة ومد يده ليفتح راديو الترانزيستور المجاور لسريره، حيث ملأت الحجرة أنغام اللحن المميز الذي تمهد به القاهرة لنشرة الأخبار، وعاد يتمدد في رقدته يتابع الموجز، ثم أقفل الراديو قائلا لم أجد الخبر الذي كنت أتوقع أن أسمعه!. وبعد ذلك بدقائق أسلم روحه لله وغادر الدنيا. لقد خرج عبدالناصر من مؤتمر القمة إنسانا منهكا متعبا، وقال للقريبين منه إنه سيضع قدميه في الماء الدافئ والملح، ثم ينام يوما كاملا. ويدلل هيكل على ذلك أن ناصر شعر بوعكة شديدة وهو يودع أمير الكويت الأمير صباح السالم الصباح آخر الزعماء العرب المغادرين أرض المطار، وطلب أن تأتي السيارة ليستقلها، حيث كانت طبيعته أن يسير هو إليها، لكن شعوره بالألم كان أقوى منه. على الفور طلب الزعيم من سكرتيره محمد أحمد، أن يحضر الطبيب الخاص به، الصاوي حبيب، ولما حضر تأكد أنها نوبة قلبية جديدة يعاني منها قلب الزعيم، فاستدعى طبيبين آخرين، وعددا ممن سيروا أمور البلاد خلال غياباته المتكررة. عن هول اللحظة يقول هيكل، إن الزعيم أسلم روحه لله بهدوء شديد، حتى أنه لم يهتز إلا عندما أرسل جهاز الصدمة الكهربائية ثلاث شحنات راعدة، عبر جسده الطاهر، فكان المرجو أن تؤدي هذه الصدمات إلى دفع قلبه أن يخفق من جديد، لكن قضاء الله قد حل. انتقلت عدوى يأس الأطباء إلى كل من حول الزعيم في هذه اللحظات. غطى الطبيب وجه الزعيم بملاءة بيضاء وانطلق ينتحب، دون أن يحاول السيطرة على نفسه، ثم أبلغ زوجته السيدة تحية، التي دخلت إلى الحجرة وأزاحت الغطاء لتقبله على جبينه. التفت حسين الشافعي صوب القبلة يركع ويصلي، بينما وقف أنور السادات خلف السرير المسجى عليه جسد الزعيم، وأخذ يتلو آيات من القرآن، أما هيكل نفسه فأخذ يردد كلمات مثل يا رب.. مش معقول. نزل الجميع من الغرفة، وأنين الزوجة يتردد في الآذان. وكان الاجتماع الأول في صالون بيت عبدالناصر بعد الوفاة مهماً وضم أنور السادات، وحسين الشافعي، وعلي صبري، وسكرتير الرئيس محمد أحمد، ووزير الدولة للشؤون الخارجية والمقرب جدا من الزعيم سامي شرف، ووزير الداخلية شعراوي جمعة، ووزير الحربية الفريق فوزي، وقائد الحرس الجمهوري الفريق الليثي ناصف، ومعهم الأستاذ هيكل وزير الإرشاد وقتها، وكان السؤال ماذا بعد؟. طال الحديث فيما بين عقلاء الدولة، فنصح الأستاذ الجميع بضرورة الدعوة لاجتماع مشترك بين مجلس الوزراء واللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي، للإعلان عن موت الزعيم، وتنصيب أنور السادات رئيسا مؤقتا حسب نص الدستور، فلم يعترض أحد. وفي هذه الأثناء ذهبت سيارة إسعاف لنقل جثمان عبدالناصر إلى قصر القبة، حيث صاغ هيكل أيضا بيان الوفاة. السادات طلب منه أن يذيع البيان بنفسه، ولكن الأستاذ رفض، مؤكدا ضرورة أن يشعر المصريون بالاستمرار بعد معرفة نبأ موت الزعيم. ولكن ما حدث هو حزن عام. فبعد انتهاء السادات من تلاوة البيان اندفع الناس من بيوتهم في جوف الليل واتجهوا إلى محطة الإذاعة على ضفاف النيل هم دائما طوال تاريخهم في لحظات الانفعال القصوى يهرولون إلى النيل، فيما تحلقت النسوة يصرخن ويعددن السبع مات.. السبع مات. ملامح خلاف ليلة تشييع الجثمان الطاهر رواها الأستاذ عندما أكد لشعراوي جمعة، أنه قرر ترك منصبه كوزير للتفرغ لعمله الصحفي في الأهرام، فاعترض وقتها سامي شرف، ووصل اعتراضه للصراخ بالقول عبد الناصر لم يمت، لكن هيكل كان أكثر رجاحة، حينما رد عليه لابد أن تواجه حقائق الطبيعة، إن الرجل مات، وسيُحكم على كل منكم من الآن فصاعدا، بما يمكن أن يقدمه من أجل مصلحة البلد، إنها صفحة جديدة فتحت أمامكم جميعًا. إنه الخميس الأول من أكتوبر عام 1970، يوم جنازة عبدالناصر. يقول هيكل على الرغم من أن الفريق فوزي حشد ثلاث فرق من قوات الجيش لتأمين الجنازة، إلا أنه كان يخشى أن يفلت الزمام، حتى أن هيكل أكد أنه تلقى مكالمة هاتفية من أنور السادات يبلغه فيه باقتراح إلغاء الجنازة خوفا من سرقة النعش، بينما اقترح آخرون أن يتوجه الجثمان للدفن بشكل سري، وأن يكون النعش خاويا، إلا أن الجميع رفض هذه الفكرة، خوفا من غضب عارم لا يُحمد عقباه إذا اكتشف الشعب ذلك. مشهد الجنازة كان مهيبا. المسيرة التي سار خلالها نعش الزعيم اقتربت من سبعة أميال تقريبا من نادي الجزيرة حيث تعذر هبوط الطائرة الهليكوبتر في مجلس قيادة الثورة كما هو مقرر، إلى مثواه الأخير في مسجده الواقع الآن بالقرب من وزارة الدفاع في منطقة كوبري القبة. فوارى الزعيم الثرى، وبقي هيكل شاهدا ومؤرخا للحظات تاريخية فارقة في حياة المصريين.