مر جيل على انتهاء الحرب الباردة، والطائرات المقاتلة الروسية تخترق دفاعات حلف شمال الأطلسي في الأجواء المحيطة بالنرويج والبرتغال. وقسّمت روسيا إحدى جاراتها، وضمت جزءا من أراضيها. واستحوذ جنون المكارثية على النخبة، فيما يستهدف المحققون الطابور الخامس الوهمي من المواطنين الخائنين. وصدمت حدة الانقلاب الروسي الحالي ضد الغرب المراقبين، ودفعتهم للبحث عن تفسيرات. ويعتقد مارفن كالب، مراسل الشؤون الخارجية المخضرم، أن أساس الأزمة الحالية يرجع إلى تاريخ المنطقة، وتحديدا الماضي المتشابك بين روسيا وأوكرانيا. وفي كتابه «مغامرة إمبراطورية»، كتب كالب تمهيدًا عن أهم الأحداث والشخصيات للقرون الـ12 الماضية. ويتراوح السرد من الغزاة المغول إلى الاحتجاجات الموالية لأوروبا في كييف، ومن قرى غريغوري بوتيمكين الزائفة إلى ديمقراطية فلاديمير بوتين المصطنعة. وفي هذا الجزء من العالم، كما يذكرنا كالب، انصهرت الأقاليم والثقافات واللغات مع بعضها البعض على مر الزمان، حتى إن الشخص كان يجتاز الإمبراطوريات دون أن يغادر منزله. وبالنظر إلى شبه جزيرة القرم قبل أن ينتهي بها المآل لأن تكون جزءا من أوكرانيا المستقلة في عام 1991، فقد انتقلت من البيزنطيين إلى المغول والعثمانيين والروس والسوفيات. هذا الماضي المتشابك، من وجهة نظر كالب، دفع بوتين لانتزاع شبه الجزيرة من أوكرانيا في عام 2014، وإن لم يكن هذا السبب حتميا أو مبررا، فإنه على الأقل مفهوما، «ولا يوجد مفر من التاريخ». وبالطبع، لا يحول تاريخ الصداقة الحميمة دون الانفصال، ويشهد على ذلك محامو الطلاق. وقد حدث «طلاق» بين الدولتين لمدة 23 عاما، حتى وصل الأمر لدرجة توقيع معاهدة صداقة في عام 1997. وإذا وجد بوتين هذا الطلاق غير مقبول، فكان لديه عدة فرص سابقة للعمل، ومسارات واعدة أكثر للتكامل، سواء عن طريق الدبلوماسية أو التخريب المستتر. ومن الصعب استنتاج لماذا تدخل بوتين عسكريا عندما أراد التكامل - الذي أدى بدوره إلى توحيد الأوكرانيين ضده، وتسريع تقارب كييف من الغرب - من الماضي السحيق. ويقترح الباحث البارز والتر لاكير، في كتابه «البوتينية»، أنه من الممكن فهم الرئيس الروسي من خلال النظر إلى تاريخ أفكاره. ولشرح السياسات الحالية، لا بد من دراسة المزيج الغريب من الفلاسفة والمجادلين الذين يقرأ مسؤولو الكرملين لهم. وخص لاكير بالذكر كاتبين: ألكسندر دوغين، الذي كان أحد النازيين الجدد وهو الآن أستاذ في علم الاجتماع. ولا شك في أن دوغين - الذي يحل ضيفا على البرامج الحوارية في موسكو - يمتلك معجبين بين النخبة الروسية. ومن غير المعروف ما إذا كان بوتين هو أحدهم. ولا يدعي لاكير ذلك، لكنه يشير إلى أن أفكار دوغين تحظى بشعبية بين المخططين العسكريين في البلاد. وفي الحقيقة، ربما أصبح دوغين متطرفا بالنسبة للكرملين؛ حيث أُقيل من وظيفته الجامعية في يونيو (حزيران) 2014 بعد نشر مقطع فيديو يحض الروس في أوكرانيا على «القتل». كما أنه اتهم بوتين بـ«التردد المرضي». والفيلسوف الثاني هو إيفان إيلين، المعروف أنه المفضل لبوتين. وقد اقتبس الرئيس الروسي في خطاباته من كتابات إيلين، وأوصى الحكام الإقليميين بقراءة أعماله. وكان إيلين - اللاجئ منذ ثورة 1917 - يشعر بالرعب من الشمولية البلشفية وبالمثل من الديمقراطية «الميكانيكية، الكمية، الرسمية» في الغرب. يظهر إعجاب بوتين بأعمال إيلين جليا. ولعل ما يثير إعجاب بوتين هو تحذيرات الفيلسوف من مشروع ألماني لتفكيك روسيا - وربما لم تكن هذه النظرية لتثير الغرابة لو كانت خلال حكم أدولف هتلر. لكن بوتين لا يقتبس مثل هذه التحذيرات في خطاباته. وكان لاكير محقا عندما أشار إلى اللهجة الاستبدادية في الخطاب السياسي الحالي. فقد أعرب رئيس المحكمة الدستورية عن أسفه حيال تمرير نظام القنانة. كما تحدث رئيس لجنة الانتخابات المركزية بنبرة حزينة عن النظام الملكي. وبنظرة تتسم بالخبرة، يتوغل لاكير في الظلام الروسي ليستخرج الأدلة من اتجاهات الظلام هناك: الخوف من الغرب، والاعتقاد بالمستحيل، والخلاص. ومع ذلك، ما مدى الجدية التي ينبغي لنا اتخاذها حيال كل هذه المواقف الفلسفية إذا - كما يلاحظ لاكير - كان الروس غير مدفوعين بأي آيديولوجيا، وإنما ترتبط تركيبتهم النفسية وطموحاتهم في المقام الأول بمصالح أفراد المجتمع الاستهلاكي؟ المشكلة مع التاريخ - سواء المتعلق بالدول أو الأشخاص - أن دروسه غامضة. أخبرني زعيم المعارضة فلاديمير ريشكوف، وهو مؤرخ روسي، مؤخرا عن تبادل حواري أجراه مع بوتين في أواخر عام 2013، قال ريشكوف للرئيس إن الماضي الروسي يظهر أنه «عند تضييق الخناق كثيرا، تحدث ثورة». غير أن بوتين لديه وجهة نظر مختلفة، وهو ما اكتشفه ريشكوف عندما رد عليه الرئيس الروسي قائلا: «بالنسبة لي، يظهر التاريخ الروسي شيئا آخر - وهو أنه عندما تعطي الكثير من الحرية، فإنه يؤدي إلى الفوضى وعدم الاستقرار». وبالإضافة إلى تواريخ الأمم والأفكار، تحمل قصص القادة أدلة ومفاتيح. ولا تعتبر رواية «القيصر الجديد» للكاتب ستيفن لي مايرز، أول سيرة ذاتية لبوتين، لكنها الأقوى حتى الآن. هذه الرواية الحصيفة والشاملة تسحب الستار قليلا عن أكثر زعماء العالم سرية. وأكثر ما يلفت النظر، بالنظر إلى هالة الثبات الفولاذي الذي يتسم به بوتين، هو أنه تغير كثيرا على مر السنين. ويبين مايرز كيف أصبح بوتين لاذعا وهو يتقدم في السن؛ فقد طلق زوجته، وخاض جولات انتخابية مشكوكا فيها بشكل كبير. كما ضاقت دائرته وهو يُبعد المفكرين المستقلين، ويستبدل بهم رياضيين، ويستميل المشاهير الغربيين، مثل سلفيو برلسكوني والأصدقاء القدامى من سانت بطرسبرغ أو الاستخبارات السوفياتية، الذين أصبحوا أثرياء عاما بعد عام. لم يتطرق مايرز إلى الغزو السري لشبه جزيرة القرم في ذروة الأحداث في كتابه. فهو مقتنع بأن القرار جاء مفاجئا، حيث كتب: «لم يخطط بوتين لإدخال بلاده في حرب. وكذلك لم يعد بلاده للحرب». وحينما قرر خوض المغامرة، بدأ في اتخاذ القرارات «وحده وبشكل عفوي». وافتقد مايرز أحد التفاصيل المهمة، فيبدو أن بوتين لم يعارض الاتفاق الذي توسط فيه الاتحاد الأوروبي والذي بموجبه وعد الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش بالتنحي في وقت مبكر. بل كان يانوكوفيتش - حليف بوتين - هو الذي يقاوم المطالب من الاحتجاجات الموالية لأوروبا بالاستقالة. ووفقا لوزير الخارجية البولندي آنذاك رادوسلاف سيكورسكي، الذي كان في أوكرانيا وقتئذ، كانت مكالمة من بوتين هي التي أقنعت يانوكوفيتش بالموافقة على التنحي. وعندما أخفق زعماء المعارضة الأوكرانية وداعموهم الأوروبيون في تنفيذ الاتفاق، الذي أدى إلى إجراء انتخابات مبكرة لكن في ظل الانهيار الفوضوي للنظام وهروب يانوكوفيتش إلى روسيا، شعر بوتين بأنه تم خداعه. تكمن القوة الكبرى في كتاب مايرز في طريقة عرضه كيف أن الأحداث التي جاءت من قبيل الصدفة وانحطاط بوتين نفسه مهدت الطريق تدريجيا لأزمة أوكرانيا. يبرز بوتين بأنه ليس إنسانا آليا للاستخبارات السوفياتية، ولا يجسد التقاليد التاريخية الروسية، ولا ضحية بريئا للاستفزازات الغربية وغطرسة حلف الناتو، وإنما بالأحرى فرد مخطئ اتخذ خياراته الخاصة في لحظات حاسمة، وبذلك شكّل التاريخ. * خدمة {واشنطن بوست}