تبدو منطقة شرق المتوسط متأهبة لأداء دور كبير قريباً لتكون مصدراً أساساً للغاز إلى أوروبا الساعية إلى تقليص اعتمادها على الغاز الروسي. وتجهد دول حوض المتوسط، الجادة في الاستفادة من ثرواتها الطبيعية، إلى ترسيخ مواقعها وتكوين تحالفات إقليمية، خصوصاً أن مستقبل الطاقة يصب في خانة الغاز ومصادر الطاقة النظيفة في وقت يبحث العالم عن مصادر بديلة للنفط. ولا شك في أن ملف الغاز في شرق المتوسط بتركيبته الجيوسياسية أخذ حيّزاً كبيراً من النقاش في الفترة الماضية كما رُبط ملف الحرب السورية في أحد أوجهه بموضوع مرور أنابيب الغاز المتجهة إلى أوروبا. وكان بارزاً ضمن هذا الملف توقيع إسرائيل وقبرص واليونان اتفاقاً يتيح تصدير الغاز الإسرائيلي من حقل «ليفاياثان» والقبرصي من حقل «أفروديت» إلى أوروبا عبر اليونان. وإذا كان الاتفاق جامعاً في الشكل فإن تقاطع المصالح الاقتصادية من جهة والسياسية الداخلية في كل من البلدان الثلاثة من جهة أخرى ربما أدى الدور الأكبر في إتمام الصفقة للاستفادة من مخاطبة الحاجة الأوروبية. فاليونان تبحث عن مصادر جديدة للإيرادات لسد ديونها المتراكمة والخروج من أزمتها المالية، وتسعى قبرص إلى إبعاد شبح التجربة اليونانية عنها مع تمكنها من تجنيب مصارفها الكأس المرّة وهي أيضاً تريد تثبيت موقع لها في سوق مصدري الغاز. أما إسرائيل التي لطالما كانت مستوردة للغاز، فتجد ذاتها اليوم في موقع التحوّل إلى قوة التصدير الأولى في المنطقة مستفيدة من ثروة كبيرة ومن تأخر لبنان في إتمام أي خطوات عملية في هذا الملف بسبب التجاذبات السياسية الداخلية وشبهات الفساد التي تحوم حول الملف. وتريد إسرائيل استباق تطوير مصر حقل «ظهر» الذي اكتشفته شركة «إيني» الإيطالية ويحوي احتياطاً يقدر بنحو 30 تريليون قدم مكعبة. ويقع حقل «أفروديت» مقابل السواحل الجنوبية لقبرص في الرقعة 12 للآبار الاستكشافية في المنطقة الاقتصادية الخالصة البحرية لقبرص، وموقعه على بعد 34 كيلومتراً غرب حقل «ليفاياثان». ويُعتقد بأن الحقل يحتوي على ما بين 3 و9 تريليونات قدم مكعبة من الغاز. أما حقل «ليفاياثان» فهو الأكبر في المتوسط، وتعمل شركة «نوبل إنرجي» الأميركية على تطويره لمصلحة إسرائيل، وتُقدر احتياطه بنحو 18 تريليون قدم مكعبة (520 بليون متر مكعب). في إسرائيل يمثّل «ليفاياثان» تحدياً بمقدار ما يشكّل فرصة اقتصادية خصوصاً في ظل النقاش السياسي الحاد الذي استجد في شأن إجراء تغييرات في الإطار التنظيمي سعياً إلى تحقيق طفرة في جذب الاستثمار الأجنبي إلى قطاع الغاز من شأنها أن تعزز المكانة الاقتصادية للفرد. ووفق «معهد واشنطن» فإن الغاز من «ليفاياثان» في إمكانه أن يساعد إسرائيل على أن تصبح دولة مصدرة للغاز في المنطقة، ويشكل الأردن ومصر اثنين من الزبائن المحتملين، قد تُضاف إليهما تركيا مستقبلاً. وقال وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتز إن أمن الطاقة ضعيف بسبب اعتماده على «تامار» فقط، وإن البلاد في حاجة إلى الإيرادات الهائلة الكامنة في بدء الإنتاج من «ليفاياثان». وتأمل إسرائيل بالتالي بجذب استثمارات لا تقل عن 20 بليون دولار لمواجهة التباطؤ الاقتصادي الأخير. ولفت الوزير إلى أن بلاده وعلى مدى العامين الماضيين سجلت نمواً سنوياً قدره 2.5 في المئة فقط، مقارنة بما بين 4 و5 في المئة قبل ثلاث سنوات. قبرص واليونان هذا الاتفاق من شأنه أن يشكل شاطئ أمان لقبرص التي مرت بأزمات مالية عنيفة عامي 2012 و2013. فتقديرات المفوضية الأوروبية للناتج المحلي للجزيرة بلغت العام الماضي 1.5 في المئة. ويعتمد الاقتصاد القبرصي على مساهمة قطاع الخدمات بنسبة 87 في المئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي ثم الصناعات التحويلية بـ 10.6 في المئة والزراعة 2.4 في المئة من الناتج. وتواجه قبرص مشاكل هيكلية مثل ارتفاع مستوى الدين الحكومي الذي قدرت قيمته بنحو 19.2 بليون يورو في 2015. ولا تزال المالية العامة للحكومة في وضع صعب إذ وصل عجز الموازنة إلى أكثر من 1.5 بليون يورو في 2014 أو 8.9 في المئة من الناتج. وواجهت الجزيرة المتوسطية مصاعب مهمة أبرزها معضلة النظام المصرفي خلال 2012 و2013 حين اضطرت الحكومة إلى الاتفاق مع المفوضية على إعادة هيكلة «بنك قبرص الشعبي» أحد أكبر مصارفها، من خلال عملية هندسة مالية للحصول على 10 بلايين يورو لتعويمه بمساهمة المفوضية والمصرف المركزي الأوروبي. أما اليونان، التي غرقت وأغرقت أوروبا معها في أزمة مالية حادة فيبلغ حجم دينها الحكومي نحو 313 بليون يورو، وبإضافة الديون على المصارف والشركات اليونانية، يصل إجمالي الدين إلى نحو نصف تريليون يورو. المفوضية الأوروبية أكبر دائن، عبر آلية الاستقرار المالي الأوروبية، بمبلغ 130.9 بليون يورو، تليها دول الاتحاد الأوروبي بقروض تبلغ 52.9 بليون يورو. أما صندوق النقد الدولي فله قروض بنحو 20 بليوناً. وهناك أيضاً السندات الحكومية اليونانية، ولدى المصرف المركزي الأوروبي ومصارف أوروبية ما قيمته 27 بليون يورو من السندات. وبعد عملية إعادة الهيكلة لديون اليونان عام 2012، هناك نحو 40 بليوناً ديون مستحقة لمستثمرين في العالم، في وقت تلامس البطالة حاجز 25 في المئة، والدين العام 180 في المئة من الناتج المحلي. من هنا فإن إتمام مشروع الغاز مع قبرص وإسرائيل واعتماد اليونان بوابة لعبور هذا الغاز إلى أوروبا سيكون له أثر كبير في الاقتصاد اليوناني بوصفه طوق نجاة. البدائل الأوروبية من الواضح أن خيارات أوروبا لتنويع مصادر حصولها على الغاز بعيداً من السطوة الروسية في هذا المجال باتت ضيقة أكثر من السابق. فشركة «غازبروم» زوّدت أوروبا بنحو 161.5 بليون متر مكعب من الغاز في 2013، لكن هذا الرقم تراجع إلى نحو 146 بليون مكتر مكعب عام 2014. «هذا الواقع لن يتغير بسهولة» وفق تقرير حديث أصدره «معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة». وأورد التقرير: «هناك أمل ضئيل بخفض الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي في شكل جوهري قبل منتصف العقد المقبل». وتشير دراسات إلى أن إمكان مد خط أنابيب للغاز من مصر إلى أوروبا سيكون أقل كلفة من نظيره الإسرائيلي والقبرصي عبر اليونان لكن فقدان عامل الاستقرار الأمني والسياسي في مصر يدفع الأوروبيين إلى عدم المجازفة في ربط أمن الطاقة ببلد تتبدل في أحوال السياسية باستمرار. وتلفت إلى أن خيار خط أنابيب للغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا يعتبر ذا جدوى اقتصادية كبيرة أيضاً إلا أن تردي العلاقات السياسية بين أنقرة وتل أبيب يحول دون ترجمة الأمر.