إن منهج التمهيد والتوطئة لقبول الموروث الديني ينبغي لنا أن نفتح له المدارس والمعاهد، وأن نلزم علماءنا ومشايخنا وأساتذتنا بدراسته، وذلك متى ما أحببنا أن نخرج بشعوبنا إلى الفضاء الأرحب لمستقبل تؤطره المحبة، ويسوده الوئام يذكر الأصوليون من أهل الفقه والتفسير قضية التمهيد في تحريم بعض الأشياء حكمةً من الشارع ومراعاة لنفسية المأمور حيث إن التدرج في ترك الشيء أيسر وأنفع من قطع الصلة به فجأة، فالتدرج في تركه يعطي النفس عزيمةً على ترك مألوفها الذي هو عليها أشد من فطام الصبي عن ثدي أمه، وكما قيل : من أطالَ ارتضاعَ أخلافِ لَهْو شقَّ فيما أرى عليه الفطامُ ويمثل أهل العلم والاختصاص لذلك بتدرج الشرع في تحريم الخمر، حيث إن الناس قبل تحريمها كانوا مولعين بشربها، فبدأ الشرع بالتنفير عنها (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ...) فلم يكن هذا تحريماً قطعًيا ولكنه يرغب في ترك الخمر، فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا : لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعضهم، وقالوا : نأخذ منافعها ونترك إثمها، فنزلت (لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى) فتركها أناس، وقالوا : لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها آخرون في غير وقت الصلاة ولم يُعلم أن أحدًا ترك الصلاة لأجلها؛ لأن المجال كان مفتوحًا لتوطئة النفس على تركها، ثم لم يبق ممن يشربها إلا القليل، يشربها ونفسه تنازعه في تركها، ثم نزلت الآية (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)، فحرمت عليهم أشد تحريم وهو الأمر بالاجتناب، وحرمت الخمر قطعًا في السنة الثالثة بعد أحد باتفاق الناس. ويخطئ في هذا المنهج – منهج التمهيد والتوطئة - في عصرنا هذا طائفتان من الناس، فطائفة ترى أنه لم يعد له حاجة وقد استبان الحلال والحرام وانقطع الوحي وثبت الشرع، وطائفة أخرى استرسلت في ذلك وجعلته متكئًا لترك الناس في غفلاتها وشهواتها وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحجة أن الناس ألفوا هذا الفعل أو هذه العادة وزوال الجبال أيسر من إقناعهم بتركها، فبقي الكثير من أهل العلم والصلاح في زاوية وسربٍ يغرد فيما يوافق هواهم ومناهم، والحق والعدل موقعه بين الطائفتين، بين الإفراط والتفريط، فالمجتمعات الإسلامية على واحديتها في الإسلام والمعبود إلا أن هناك اختلافًا كثيرًا بين الشعوب الإسلامية، في ثقافتها وتدينها وعاداتها وتقاليدها وما ألفته، وما نشأت عليه من مذهبية فقهية، ومدرسة علمية، وربما كان ذلك الاختلاف بسبب اختلاف حاملي وناشري الدين في الزمن الأول، حيث تشكلت المذاهب الإسلامية في جميع أقطار المعمورة، فتجد مثلًا الشدة في بعض المذاهب تؤثر سلبًا في الشعوب والجماهير المنتسبة إليها، وتجد التساهل كذلك قد أثر سلبًا في أقوام آخرين، فافترق العلماء على هذا المفترق فتجد من العلماء من يسلك مسلك الأخذ بالأحوط والأشد، فتراه متمسكاً بكل رأيٍ فيه صلابة وشدة، وينعكس ذلك على مقلديه ومن ولي أمرهم في فتواه، وتجد آخرين يبحثون في مذاهب العلماء ليلفقوا في مسائل ويتساهلون في الثوابت والقطعيات حتى قال شاعرهم : أحلَّ العراقيُّ النبيذَ وشربَهُ وقال الحرامان المدامةُ والسُّكرُ وقال الحجازيُّ الشرابان واحدٌ فحلّتْ لنا بين اختلافهما الخمرُ سآخذ من قوليهما طرفيهما وأشربها لا فارقَ الوازر الوزرُ ومن ذلك الفهم الخاطئ لمفهوم التمهيد والتوطئة غابت كثير من الشخصيات التي تريد إرجاع الأمة إلى المنهج والمسار الصحيح! إننا بحاجة إلى مذهب التمهيد والتوطئة ليس في شرب الخمر وفعل الفواحش، فالأمر فيها قد قضي، لكن هذا قد يفيد مع الداخلين حديثا في الإسلام، أو التائبين من منكرات وفواحش كانت تملأ حياتهم، فمسلك التمهيد معهم قد يعينهم على القبول والرجوع، وبالتالي أن تكتمل توبتهم وتستقيم حالهم . ولا بد من أن نمهد للناس ونوطئ لهم مسلكًا ليقبل بعضهم بعضًا فلا نتمسك بآراء نرى أن فيها الحق كله، ومن خالفه فقد ضل ضلالا مبينا، بينما هناك من يخالفها من أئمة الدين، من الأئمة المتبوعين، وقد يكون تضييقا على الناس أن نصور لهم أن لا رأي على الحق والهدى غير رأينا، وأن من خالفنا في مسألة كيت وكيت فهو ضال أو جاهل، أو له مآرب أخرى لهدم الدين وصد الناس عن سبيل الله ! وغير ذلك من الأوصاف القبيحة التي لو جمعت فإنك لن تجدها في أبي لهب، فكيف إذا كان على ذاك الرأي مذهب بأكمله وفيه أئمته وعلماؤه وفقهاؤه وحكماؤه ؟ أكل هؤلاء مفسدون وضالون وجاهلون ؟! عجبًأ ! إن حاجة الدعاة والعلماء اليوم إلى منهج التمهيد والتوطئة لا يخص من تشدد برأيه فقط في بعض الأقطار، وإنما يخص أيضا ذاك الذي يزعم أنه منفتح، وأنه يسلك مسلك التنوير والتيسير، كيف نسعى لتمهيد وتوطئة نفسه لقبول صاحب الرأي المخالف، وكل ذلك ليس داخلًا في توطئة لفعل الحرام القطعي، فهذا من خصائص الشرع، ولكن كيف نمهد لكثير من المسلمين المتمسكين بتقاليد وعادات ينسبونها إلى الدين وآراء الحق في خلافها ونحن نعلم أن الموروث الإسلامي قد خالف تلك العادات والمسائل في غير ما مذهب وعلى لسان أئمة وعلماء، وكيف نقول لذاك الشاب الغالي إن ما أنت عليه من الشدة سنناقشك فيه ونبين لك الصواب من الخطأ، ولكن قبل ذلك عليك أن تعلم أن هناك آراء لأئمة الدين تخالف ما أنت عليه، ومتى نسمع من ذلك العالم الفقيه النحرير الذي يحرم باجتهاده مسألة من المسائل ويقول خلافنا للإمام فلان رحمه الله ولمذهب كذا وكذا وقد يكون الحق معهم؟ إننا نسمع من يفتي بتحريم فعل، ويقول : لا يخالفنا في هذه المسألة إلا صاحب هوى، أو من هو أجهل من حمار أهله ! فنقول له : يا شيخنا، يا عالمنا، يا فقيهنا، هذه المسألة خالفك فيها جمهور العلماء، خالفك فيها الشافعي ومالك وأبو حنيفة، خالفك فيها الذهبي وابن حزم، بل خالفك فيها صحابة كرام، فما هذا التجرؤ والاتهام، أين الإنصاف والاحترام ؟ أهو حفاظ على شخصيتك وشهرتك وموقعك، ومراعاة لوقارك وهيبتك ؟ إن منهج التمهيد والتوطئة لقبول الموروث الديني ينبغي لنا أن نفتح له المدارس والمعاهد، وأن نلزم علماءنا ومشايخنا وأساتذتنا بدراسته، وذلك متى ما أحببنا أن نخرج بشعوبنا إلى الفضاء الأرحب لمستقبل تؤطره المحبة، ويسوده الوئام، ويُفقد فيه القذف والسب والشتيمة، ونتخلص فيه من العادات التي نزعنا فيها عرق إلى الجاهلية، ونحفظ به حرمة علمائنا وأئمتنا من السلف الذين نسير على خلاف آرائهم في كثير من المسائل متبنين آراء أمثالهم من العلماء ولا نغمطهم حقهم في الترحم والدعاء، ونحترم ونوقر من أخذ برأيهم وسار على منوالهم واقتنع بأدلتهم واستدلالهم.