لابدّ للبشرية من لذّة العيش فوق وسادة محشوّة بعقيدة أو بفكرة كونية. كانت هذه حاجة ملحّة وستبقى في كلّ عصر وزمان، تسعف الفرد في تفسّير غبار العظمة في هذا الكون من ناحية، وتدفعه من ناحية أخرى إلى فهم أو تقبّل الكوارث والدماء والمفارقات والأحداث التي تتجاوز العقل والإدراك وتبسيطها، المحطّة الأولى جاءت مع الفلسفة التي ولدت مع بزوغ الشمس في الشرق، من بلاد الصين والهند إلى الإغريق والعرب على شكل أسئلةٍ كبرى. تعثّرت كلّها وأخفقت في الجواب، مع أنّها عبرت إلى بلاد الغرب وصارت تبحث اليوم في البيئة والصحة والتلوّث، وترسّخت المحطّة الثانية مع الأديان التوحيدية التي اختزنت بقيمها إجابات خيّمت بنسبٍ مختلفة على الوجود البشري، لكنها أورثت، وتورث نزاعات وحروباً وانقسامات في الكرة. ثمّ عبرت أوروبا، في المحطّة الثالثة، مجدداً نحو العقل في عصر الأنوار أو التنوير، لتظهر في المحطة الرابعة الفكرة القومية التي عبّأت العالم بفكرة التاريخ بمخزونها القوي في تحديد حركة الشعوب والحضارة. منذ الستينات، تبدو البشرية في محطّتها الرابعة التي تتجاوز العلم إلى التكنولوجيا التي أسقطت الكثير من الحواجز والحدود بين البشر وبعثت في الأرض رفاهية ونعماً لا حدود لأوجهها الإيجابية، لكنها من ناحية أخرى، مسحت الثقافات وبعثرتها وأوجدت أسلحة فائقة الذكاء قادرة على مسح الجنس البشري. صحيح أنّ هذه المحطّة جعلت الفرد يقبض على العالم ويتواصل مع مخلوقات الأرض، لكنّ السؤال هو: إلى أين تقودنا هذه التكنولوجيا مقارنة مع الفلسفة والدين والعقل والقومية؟ هل تقودنا إلى مجتمعٍ بشري متناغم ومتوائم أو أنّها ترمينا في محطة الصفر، تعيدنا إلى الإنسان الأوّل كما آدم وحوّاء في عالمٍ هش لا حدود له ولا إدراك. لست باحثاً عن جواب، لكنّني مفتون باللحاق بفكر انهيار الاجتماعية، بمعنى المجتمعات والجماعات والغوص في الفردانية عبر وسائل الاتصال، لا التواصل قطعاً. هناك توجّه تكنولوجي يدفعنا منصاعين إلى الانكماش خلف زجاجاتٍ متنوعة الأشكال والألوان والأجيال تماماً كما العناكب خلف خيطانها وأعشاشها، يخضع هذا التوجه المعروف بالانكماشي حتى درجة العجز بل التلاشي الحضاري والتأثيري إلى إمكانية مضاعفات قدرات الفرد الوهمية وسهولة إخضاعه وإعادته إلى النقطة الأولى. ومهما تجدّدت أفكار المحطات الأربع وجهد أبناؤها في مصالحة الإنسان مع التكنولوجيا بعدما حوّلته إنساناً رقمياً، فإنّه إنسان يعيش في شروخ مجتمع له صفات جديدة متعددة معقدة، إنّه مجتمع المعلومات أو المجتمع الثالث حيث عصر الكومبيوتر وثورة الإلكترونيات وانفجار المعلومات وثورتها أو ثورة الاتصال وعصر اقتصاد المعرفة، لا يتجاوز ثمن الخلوي أو الآي باد مثلاً عشرة قروش بمواده البلاستيكية وأشرطته وقصديره، بينما هو يساوي القبض على العالم كلّه، ننصاع أمام أولادنا وأحفادنا مهما كان ثمنه، وكأنهم هم الآباء ونحن الأبناء. إنّه المجتمع العالمي، حيث انهيار الأرقام وسحقها وهندسة المعرفة والمنزل الذكي Smart Home والمدن الآلية Computerized Cities والمقاهي الإلكترونية Electronic Caf، وطرق المعلومات السريعة وصناعة الأخلاق Ethics Industry، والحكومات والجامعات والصحف والسلطات التكنولوجية، إنّه مجتمع التكنولوجيا حيث الأرقام والرموز والأزرار وأطراف الأنامل بأنواعها مع الصوت والنص والصورة، مع المكتوب والمنطوق، مع المحسوس وغير المحسوس، مع العقل والأسرار البيولوجية الدفينة النفسية منها، الوهمية والممكنة. وتنتشر أشياء هذه المعلومات من أدوات المطابخ وفراشي الأسنان إلى المفاعلات الذرية، إنّها صناعات الأوهام التي تسعى لإقامة عوالم مصطنعة مركبة وغير واقعية وتبدو التكنولوجيا حاجة ديكتاتورية للحياة مثل الماء والغذاء والهواء. إنّه مجتمع الإنسان الرقمي المزود بقدرات وطاقات معلوماتية، يعدو فوق جادات المعلومات دون أن يكون صاحب اختصاص أو كفاءة. وتصبح عدم الكفاءة بالمعنى الجديد، هي الكفاءة الجديدة الشاملة حيث الفرد هو نسمة عند الإحصاء لا فرق بين عالم وعامل، كلاهما يحمل هوية وهمية سائلة، مائعة متحركة، لكنّها قد لا تأخذ اعتبارها إلّا خلف الشاشة حيث يعمل الناس معاً، وتخفّ الأقنعة البشرية عملياً عن بُعد. هكذا يتراكض الناس، تحدوهم الرغبة الرقمية، للاشتراك بالإنترنت والتباهي بطبعات الهواتف المحمولة، لأنّ شعوراً ينتابهم بالإحباط والعجز، إن لم يشاركوا في نسيج القشرة الدماغية العليا ووظائفها العالمية. وتبدو السلطة في الانتساب إلى هذا اللحاء البشري مرعبةً، خصوصاً وأنه انتساب يعني في ما يعنيه أن واحدنا موصول بالبشرية كلها، صامتاً أو هامساً يسمع صداه أو صدى الآخر. وإذ يتحاور السياسيون التقليديون والمفكرون حول الربيع العربي والتراث والتاريخ في بلاد العروبة والإسلام ودولة الخلافة مثلاً، يظهر جيل لاعب خفي جديد متحرّر من الأفكار المسبقة كلِّها في المشهد الرقمي. هؤلاء الصبية ليسوا مجبرين على التجاور الجسدي لتوفير ظروف صداقاتهم بما يجعلهم متعاضدين، بل يلعبون ويشعرون بتقاربهم وتفوّقهم وذكائهم الخارق، وهم يعيشون التكنولوجيا الرقمية قوةً طبيعية صارخة تشدّهم نحو تناغم عالميّ أو ذكاء عالمي أوسع غير متوفّرٍ دائماً في محيطهم العائلي أو الاجتماعي الضيّق. من الصعب التكهّن كيف ستكون أدمغة إنساننا الآتي، وهل سيختلف كثيراً عنّا، هناك دراسات ترى أنّ الأطفال الذين يرون أفلام اليوم أو البرامج القصيرة التي تعبر عن اللحظة والمقابلات القصيرة جداً، والاستغراق في الألعاب الإلكترونية، يخلق منهم أصحاب قدرات علمية أكبر من قدراتنا تسمح لهم بفضل التدرّب على تنمية مبكرة لطاقة قوية ما شهدناها من قبل، وتسمح لهم، بالطبع، باستيعاب تعقيدات المواقف المتعددة. وإذا ما بقينا نعتبر هذا الذكاء الاصطناعي المتدفق تخريفاً علمياً وتكنولوجياً، فداخل منازلنا عصر مقيم من الانكماش والضمور والانهيار والتحولات الرهيبة يجعلنا على رصيف التكنولوجيا ويجعل أجيالنا، وقبل أن تنبت أسنانهم أو يتكلّموا يسابقون إبداعات التكنولوجيا لإثبات عجزنا القاتل الرهيب في خلال المحطّات الأربع. drnassim@hotmail.com