مثل معظم الرجال في العالم العربي، لم يعد لدي الوقت، أو الرغبة، أو المزاج، لسماع الموسيقى والأغاني. حتى في رحلات السيارة أتحول سريعا إلى نشرات الأخبار. فالخبر العربي لم يعد حدثا يقع كل فترة، بل هو جلل يقع كل برهة. وعندما كنت شابا في هذا الزمن العربي كانت في كل لبنان إذاعة واحدة، هي الرسمية، وفيها نشرة أخبار واحدة تذاع عند الواحدة، وقت عودة الموظفين إلى بيوتهم. وأما الأخبار الطارئة فكانت تأتي من الـ«بي بي سي»، وكفى الله المؤمنين عناء المتابعة وهموم المستجدات والمتغيرات. لا أدري ما عدد الإذاعات في لبنان الآن. ومعظمها يعيش على صوت فيروز في الغناء. وهذا هو المظهر الوحيد من مظاهر الاتفاق بين اللبنانيين. لكنني أحن أحيانا إلى سماع محمد عبد الوهاب أو أم كلثوم أو عبد الحليم حافظ، فألجأ إلى الأسطوانات. لا تمضي برهة حتى أعود إلى إذاعات الأخبار، كأنني ارتكبت ذنبا معيبا. أسمع أحيانا في الإذاعات عن الموسيقار فلان أو الموسيقار علان. بقيت سنوات طويلة وساذجة أعتقد أن أحدا لن يعطي نفسه مرتبة موسيقار بعد محمد عبد الوهاب، كما أن أحدا لن ينادى «الست». عندما نتحدث إلى فيروز في أمور عادية تشير إلى نفسها باسمها الأول: نهاد. ثم عندما يدور الحديث عن قمر الأغنية، تتحدث طوعا عن فيروز، أي الاسم الذي صار ملك الجموع. لا يضير عبد الوهاب أن ينتحل فرد أو مجموعة أفراد مرتبة موسيقار، التي لم تُعرف من قبله، ولم يكن لائقا أن يدّعيها أحد بعده. لقد استخدم كثيرون لقب إمبراطور وكان هناك نابليون واحد. عرفنا في مصر عدة ممثلات كبيرات، وكانت هناك واحدة أعطيت لقب «سيدة الشاشة». إن تسمية الموسيقار بعد عبد الوهاب إهانة لطالب الاسم وليس لمؤسس الموسيقى العربية المعاصرة، فلم يكن الرجل ملحنا أو مغنيا كبيرا فحسب، بل كان معلما من معلمي الموسيقى ومؤرخيها ومفكريها. كان «فيلسوف» الأصوات والآلات. وكان سيد مرحلة انتقلت فيها الموسيقى الغنائية من الوتر اليتيم إلى الفرقة المتعددة. لقد وزع ألحانه على الأصوات والأوتار معا بخبرة المعلم المؤسس. وغنى هو لموسيقاه مدركا مع العمر مدى الحنجرة ومحدوديتها. ومنه تعلم الأساتذة الآخرون من ذلك الجيل النادر غير المتكرر. كلمة «موسيقار» لم تكن لقبا لعبد الوهاب، بل كانت اسمه. الاسم الذي لم يعطه له والده، بل الإقرار الذي تقدم به شعراء العرب وفنانوهم ومغنوهم. وعندما يشير أحدهم إلى نفسه بخفة بهذا اللقب فكأن تسمي مغنية نفسها «الست».