لم أفهم سر العلاقة السحرية التي ربطتني ببيروت؟ كنت أظن أنها نتاج سياحة خليجية تتصف بأنانية تصد بعينيها عن آلام هذه المدينة، وجعلها - رغماً عنها - على غير ما هي عليه، لأننا فقط أحببنا أن نراها هكذا في إجازاتنا السخية. تجربة الدراسة في جامعتها اللبنانية جعلتني أختبر عكس الفكرة السياحية في لبنان، لأن المقيم فيها ليس كالسائح فهو ينام باكراً عازفاً عن إغراءات السهر ويصحو باكراً زاهداً في الكسل فيضطر إلى التعرف اليها جيداً، ويرى وجوه الناس التي تركب «البوسطة» وتكدح منذ الصباح، وهي غير وجوه الليل الملونة. الأم تختبر المدن حين يهبط أبناؤها إلى الشارع، وتضطر إلى أن تفكر فيهم كل خمس دقائق وما يمكن أن يحل بهم، وقد أخبرتني زميلة تقيم في بيروت أن قلق الأمهات من تعرض أبنائهن للخطف صار نكتة شهيرة عند ممثلي «الستاند آب» كوميدي، حين عرفوا أن دور الشرطة في هذا الشأن لا يتعدى نصح أهل الطفل المخطوف بألا يغشهم الخاطفون، فلا يزيدوا الفدية على 15 ألف دولار. اليوم وجدت في كتاب سمير قصير عن «تاريخ بيروت» أنني لست وحدي من وقع في صورة خرافة بيروت، وأن العرب كلهم كانوا يقعون في الصورة النمطية نفسها، لأن بيروت هي التي تملك بريقاً كالذهب في عيون العرب الجائعين، فيقول مثلاً: «إن بيروت لا تعد مدينة جميلة، لكن وسطها النابض لا يُبقي المرء على حياده منها، ولا سيما إن كان غير مقيم فيها. لا جدال في أن نظرة الآخرين إليها الغرباء عنها هي التي نسجت حولها الخرافات لا الرتابة التي يعيشها ساكنوها»، لكن سمير قصير لا يلبث أن يعدد مواطن جمال هذه المدينة بساحلها وجبلها ومقاهيها وطقسها، ثم يعدد أسباب جذبها فيقول: «فيها الساحة المصرفية والمدينة الجامعية، وهي عاصمة الصحافة ودور النشر العربي ومركز للاستشفاء ومركز للترانزيت والمواصلات الجوية وعقد الصفقات التجارية والمصرفية، من أسخفها إلى أكثرها شبهة»، ثم يتحدث عن أجواء فندق ومرفأ السان جورج الباذخة والغامضة والخطرة، لهذا صارت بيروت مدينة استقطاب عربية لا مثيل لها، تتحرك ولا يستطيع أحد اللحاق بها، ولا سيما في العصر الذهبي، حتى تفجر عنفها المحموم من ربيع 1975 وبقي حتى خريف 1990. أكتب هذا الكلام وأنا أحدق في كتاب سمير قصير، هذا الكاتب الذي لو لم يمتلك عشقاً عارماً لهذه المدينة لما حدب على تاريخها يرصده في ما يقارب 700 صفحة. تاريخ لا يمكن القبض عليه بسهولة، لأنه ليس تاريخاً للوثائق والوقائع المادية، بل زاد بتحليل الحدث والصورة بعيون صافية عميقة ذكية، تجعلك تشعر وأنت تقرأه كأنك عشته تماماً، وفهمته كما فهمه الكاتب. ثم أسأل نفسي: أين ذهب سمير قصير صاحب هذا العقل الذي فكر وقدر وحلل؟ ذهب في انفجار غاشم مثلما ذهب غيره من سياسيين ومثقفين وإعلاميين. اليوم حين أزور بيروت التي قاومت طحن التفجير والقتل نحو نصف عقد، أجدها - على رغم صفائها الخارجي واللامبالاتها - تعيش رعبها المستمر، فمواطنوها حتى يوم أمس يتهادون أطناناً من المتفجرات في أعيادهم الدينية، فيموت فيها أبرياء لم يفكروا يوماً في أن يكونوا طرفاً في هذا النزاع! ما الجديد في تاريخ بيروت؟ الحقيقة أنه لا جديد، لكنها كانت درساً حالكاً في تاريخ المدن العربية، إلا أنه مر كأغنية لاهية تقول: «أسمر عبر... مثل القمر» لم نفهم منه عبرة ولم تخرج منه بحكمة، ولهذا السبب صارت بغداد وتونس ودمشق تعيش انفجارات بيروت بسبب التعددية غير المهضومة والحروب الإقليمية وجوع السلطة، لكن بيروت وحدها بقيت مدينة الخرافة التي ينعشها الحنين. balbishr@gmail.com