جعل الله طلب الرزق فرضًا، والسعي إليه شرفًا، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: (خير الكسب كسب العامل إذا نصح أي بأن أتقن وتجنب الغش وقام بحق الصنعة).. وقال عمر رضي الله عنه: "لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة".. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "إني لأكره أن أرى الرجل فارغًا لا في أمر دنياه ولا في أمر آخرته". وتبدو ثقافة العمل والحث عليه موجودة في السنة المطهرة والقرآن الكريم، ولا نحتاج إلا للتطبيق والتفعيل والممارسة. ومثلما حث تراثنا الإسلامي على العمل، فإنه بالقدر نفسه ذم التبطل والكسل والاحتيال، ونبهنا ديننا الحنيف من عدم إغفال المحددات، التي تقف حجر عثرة أمام نجاح من يسعى للرزق ويطلبه، وأهمها ضرورة إكسابه ثقافة تجويد العمل، وغرسها في جوهر تفكيره، لأن غيابها عن تربية النشء يقود للاتكال والعجز الذي يزيد من معدل البطالة الهيكلية في الاقتصاد.. ولقد خطَّأت أبحاث علمية حديثة من يُقلِّل من أهمية تعزيز ثقافة العمل، والتي تشتمل على ثلاث حلقات أي المهارات والعلم وثقافة العمل.. على أن اكتساب الثقافة هي الأكثر تعقيدًا من بين تلك الحلقات لأن المهارات يمكن اكتسابها بيسر عبر التطوير الذاتي أو التدريب أو الاقتداء بالتجارب الناجحة، كما أن العلم في حدّه الأدنى يمكن الحصول عليه من المدارس والكليات والمعاهد كل في مجال العلم، الذي يقابل به شروط الوظيفة التي يتطلع إليها.. لكن تظل الثقافة أبعد غورًا من تطوير مهارات العامل، وأصعب من اكتساب علم من أجل الوظيفة. لأنها تحتاج لفترة تتجاوز العقدين أو أكثر؛ لكي تترسّخ في سلوك الإنسان، ولهذا تهتم الشركات الكبرى مثل شركة "يونيلفر" بالخصال الثقافية، وتركز على أساسياتها في طالب الوظيفة، مثل ثقافة الاعتراف، والأداء السلوكي المهني، والولاء للوظيفة، وقبول التغيير كأمر حتمي في الحياة، والتعامل الإنساني مع الغير، والعمل ضمن فريق، ولمعرفة وجود هذه الخصال تخضع الشركة المرشح لسلسلة من المعاينات المهنية الطويلة بهدف التأكد من وجودها عنده، وبالطبع هذا لا ينفي أهمية المهارات، ولكن يبين أن اهتمام الشركات الكبرى بها أقل لأنها تستطيع أن تكسب العامل كل المهارات الضرورية وما يهمها بصورة أساسية ثقافة العمل كمفهوم، لذا يعتبر الاستثمار في تنمية ثقافة العمل لا يقل في أهميته عن الاستثمار في البنية التحتية أو الاستثمار في تحفيز النمو وليس ثمة جهة يمكن أن تنهض بذلك غير القطاع الحكومي.. ولكن الثقافات - كما في جميع الاقتصادات المتقدمة- لابد أن تغرس ما قبل الابتدائية، وتنمى على مدى ١٨ إلى ٢٠ سنة، وإعادة هيكلة التعليم وسيلة لتحقيق ذلك، وتؤسس للنجاح في محاربة البطالة الهيكلية.