مع استمرار فصول الأزمة اليونانية وانتقالها إلى المرحلة التالية، انهالت انتقادات حادة على كل من ألمانيا واليونان وثلاثي السلطة المتمثل في صندوق النقد الدولي والمصرف المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية (الذين باتوا يعرفون باسم ترويكا). ورغم أن هناك كثيرا من الأطراف التي تستحق اللوم، فإنه ينبغي ألا تتشتت أنظارنا بعيدًا عما يدور على أرض الواقع. لقد عكفت على مراقبة هذه المأساة اليونانية عن قرب منذ خمس سنوات، وتعاونت مع جميع الأطراف المعنية. وبعد قضائي الأسبوع الماضي في أثينا، حيث تحدثت إلى مواطنين عاديين، كبار وصغار، بجانب مسؤولين حاليين وسابقين، خلصت إلى وجهة نظر مفادها أن ما يجري الآن يتعلق بما هو أبعد من مجرد اليونان ومنطقة اليورو. المعروف أن بعض القوانين الأساسية التي تطالب مجموعة «ترويكا» بفرضها تتعلق بالضرائب والنفقات والتوازن بينهما، بينما تتعلق أخرى بقواعد وتنظيمات تؤثر على أسواق بعينها. أما الأمر اللافت بخصوص البرنامج الجديد (المعروف باسم المذكرة الثالثة) فهو أنه لا يبدو منطقيًا من هذين الجانبين، سواء بالنسبة لليونان أو دائنيها. وأثناء انهماكي في قراءة التفاصيل، تملكني شعور خفي بأنه سبق وأن عاينت أمرًا كهذا من قبل، فعندما كنت خبيرًا اقتصاديًا رفيع المستوى لدى البنك الدولي في أواخر تسعينات القرن الماضي، عاينت عن قرب في شرق آسيا التأثيرات المدمرة للبرامج التي يجري فرضها على الدول التي لجأت إلى صندوق النقد الدولي طلبًا للمساعدة. وقد نجم ذلك ليس عن التقشف فحسب، وإنما كذلك عما يدعى بالإصلاحات الهيكلية، والتي في إطارها كثيرًا ما سعى صندوق النقد الدولي لفرض مطالب تفضل مصلحة خاصة بعينها في مقابل مصالح أخرى. لقد اتسمت هذه الدول بمئات الظروف، بعضها بسيط، والآخر كبير، والكثير منها بلا أهمية تذكر، وبعضها جيد والآخر سيء، ومع ذلك غفلت الغالبية عن التغييرات الكبرى اللازمة بالفعل. عام 1998، شاهدت كيف تسبب صندوق النقد الدولي في تدمير النظام المصرفي لإحدى الدول. وأتذكر صورة ميشال كامديسس، المدير الإداري للصندوق آنذاك، وهو يقف بجانب الرئيس سوهارتو بينما كانت تتنازل إندونيسيا عن سيادتها الاقتصادية. وخلال اجتماع في كوالالمبور في ديسمبر (كانون الأول) 1997، حذرت من أن الدماء ستسيل في الشوارع في غضون ستة شهور. وبالفعل، اندلعت أعمال شغب بعد خمسة شهور في جاكرتا ومدن أخرى داخل إندونيسيا. والملاحظ أنه قبل وبعد الأزمة التي ضربت شرق آسيا، وكذلك الأزمات التي عصفت بدول في أفريقيا وأميركا اللاتينية (كان آخرها الأرجنتين)، أخفقت تلك البرامج وحولت فترات الضعف الاقتصادي إلى انحسار، وحولت الانحسار إلى ركود. وكنت أظن أن الدروس المستفادة من تلك الإخفاقات قد جرى تدارسها، لذا فوجئت بأن أوروبا ستفرض ذات البرنامج الجامد غير الفاعل على أعضائها. وبغض النظر عما إذا كان سيجري تنفيذ البرنامج بصورة جيدة، فإنه سيسفر في كل الأحوال عن مستويات لا تطاق من الديون، بمعنى أن السياسات الاقتصادية التي تفرضها مجموعة «ترويكا» ستؤدي إلى تعميق الكساد في اليونان. ولذلك، قالت المديرة الإدارية الحالية لصندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد، إن «هناك حاجة لإعادة هيكلة الديون» - مما يعني بصورة أو بأخرى في حقيقة الأمر إلغاء جزء كبير من الدين. وعليه، فإن البرنامج الذي تطرحه مجموعة «ترويكا» لا يتسق مع ذاته. وبينما يصر الألمان على ضرورة عدم إسقاط أي من الديون، وأن يكون صندوق النقد الدولي جزءًا من البرنامج، فإن الصندوق لا يمكنه المشاركة في برنامج يتعلق بمستويات غير مستدامة من الديون، وهو وصف ينطبق على الديون اليونانية. وتتحمل إجراءات التقشف كثير من اللوم عن حالة الكساد الراهنة في اليونان - تراجع إجمالي الناتج المحلي بنسبة 25 في المائة منذ عام 2008، وبلغ معدل البطالة 25 في المائة، في الوقت الذي يبلغ معدل البطالة بين الشباب ضعف هذا الرقم. ومع ذلك، فإن ذلك البرنامج الجديد يزيد الضغوط، حيث يستهدف تحقيق فائض بالميزانية بحلول عام 2018 بنسبة 3.5 في المائة (بارتفاع عن قرابة 1 في المائة هذا العام). وحال عدم الالتزام بهذه الأهداف، الأمر الذي يكاد يكون مؤكدًا بالنظر بسبب أسلوب تصميم البرنامج ذاته، فإنه سيترتب على ذلك تلقائيًا إقرار مزيد من إجراءات التقشف، مما سيسفر عن زعزعة الاستقرار. ومن شأن معدل البطالة المرتفع دفع الأجور نحو الانخفاض، ومع ذلك لا تبدو مجموعة «ترويكا» راضية عن المعدل الحالي لتراجع مستويات المعيشة باليونان. أيضًا، يفرض برنامج «المذكرة الثالثة» «تحديث» التفاوض الجماعي، مما يعني إضعاف النقابات. ولا يحمل أي من هذا طابعًا منطقيًا حتى من منظور الدائنين. في الحقيقة، يبدو الأمر أشبه بسجن للمدينين يعود للقرن الـ19. وتمامًا مثلما أن المستدين المحتجز في تلك السجون لم يكن بمقدوره تحقيق دخل لتسديد الدين، فإن تعمق الكساد في اليونان سيحد باستمرار من قدرتها على السداد. هناك حاجة لإقرار إصلاحات هيكلية، مثلما حدث في إندونيسيا، لكن الكثير للغاية من مثل تلك الإصلاحات التي تجري المطالبة بها لا علاقة تذكر لها بالمشكلات الحقيقية التي تواجه اليونان. ولم يجر حتى الآن طرح شرح واف للمنطق وراء الكثير من الإصلاحات الهيكلية المحورية، سواء للرأي العام اليوناني أو الخبراء الاقتصاديين الذين يحاولون فهم هذه الإصلاحات. وفي ظل غياب هذا الشرح، يسود اعتقاد هنا في اليونان بأن ثمة مصالح خاصة، داخل وخارج البلاد، تستغل مجموعة «ترويكا» في الحصول على ما لم تكن تستطيع الوصول عليه عبر سبل أكثر ديمقراطية. على سبيل المثال، لننظر إلى الحليب، حيث يستمتع اليونانيون بألبانهم الطازجة التي يجري إنتاجها محليًا وتوصيلها بسرعة. إلا أن الهولنديين ومنتجين أوروبيين آخرين بمجال الألبان يرغبون في زيادة مبيعاتهم عبر تصوير منتجاتهم، التي جرى نقلها عبر مسافات طويلة، وكأنها طازجة تمامًا بنفس قدر الألبان المحلية. عام 2014، أرغمت مجموعة «ترويكا» اليونان على حذف كلمة «طازج» من على ألبانها الطازجة فعلاً وتمديد الفترة الزمنية المسموح بها لوجود الألبان على أرفف المحلات. والآن، تطالب المجموعة ذاتها بالتخلي نهائيًا عن القاعدة التي تحدد الفترة المسموح بها لوجود الألبان المبسترة على أرفف المحلات بخمسة أيام. وفي ظل هذه الظروف، يعتقد كبار المنتجين أنهم سيتمكنون من سحق المنتجين اليونانيين الصغار. نظريًا، سيستفيد المستهلكون اليونانيون من انخفاض الأسعار، حتى ولو عانوا من انخفاض الجودة أيضًا. أما عمليًا، فإن سوق التجزئة الجديدة أبعد ما تكون عن كونها تنافسية، وتشير المؤشرات الأولية إلى أن انخفاض الأسعار في معظمه لم يجر تمريره إلى المستهلكين. من جانبي، ركزت أبحاثي منذ فترة بعيدة على أهمية توافر المعلومات وكيف تحاول الشركات أغلب الوقت استغلال نقص المعلومات. وتعد قضية الألبان هذه مجرد مثال آخر على هذا الأمر. من بين المشكلات الكامنة في اليونان، على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، دور مجموعة من الأثرياء المسيطرين على قطاعات حيوية، منها المصارف ووسائل الإعلام. وقد قاومت هذه المجموعة التغييرات التي حاول جورج باباندرو، رئيس الوزراء السابق، إقرارها بهدف تعزيز الشفافية وفرض قدر أكبر من الالتزام بهيكل ضريبي أكثر تقدمية. والآن، جرى التخلي عن معظم الإصلاحات المهمة التي كان من شأنها كبح جماح مجموعة كبار الأثرياء اليونانيين - الأمر الذي لا يعد مفاجأة بالنظر إلى أن مجموعة «ترويكا» بدت بعض الأحيان في صفهم فيما مضى. وبينما اتضح في وقت مبكر من الأزمة أنه ستتعين إعادة رسملة المصارف، كان من المنطقي المطالبة بأسهم تصويت للحكومة اليونانية. وكان ذلك ضروريًا لضمان وقف عمليات الإقراض تحت تأثير سياسي، بما في ذلك إقراض المؤسسات الإعلامية المملوكة لكبار الأغنياء. وعندما جرى استئناف إجراءات الإقراض تلك - حتى لمؤسسات مالية تقتضي الظروف التجارية البحتة عدم إقراضها - غضت مجموعة «ترويكا» الطرف عن ذلك. كما أنها تواطأت بينما كان يجري طرح مقترحات لسحب مبادرات مهمة لحكومة باباندرو بخصوص الشفافية والحكومة الإلكترونية، وهي مبادرات أدت لتقليص ممارسات محاباة الأقارب. عادة ما يحذر صندوق النقد الدولي من فرض ضرائب مرتفعة. ومع ذلك، أصرت مجموعة «ترويكا» بالنسبة لليونان على فرض معدلات ضريبية مرتفعة حتى على مستويات الدخل شديدة الانخفاض. ورغم أن جميع الحكومات اليونانية الأخيرة أدركت أهمية تعزيز العوائد الضريبية، فإن السياسات الضريبية الخاطئة قد تدمر الاقتصاد. وفي ظل اقتصاد لا تعمل منظومته المالية بصورة جيدة، ولا تستطيع الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم الحصول على اعتمادات، تطال مجموعة «ترويكا» شركات يونانية بدفع جميع ضرائبها مقدمًا مع بداية العام، قبل أن تجني أي مكاسب، وقبل حتى أن تعلم حجم الدخل الذي ستجنيه. ويرمي هذا الأمر لتقليل التهرب الضريبي، لكن في ظل الظروف اليونانية الراهنة فإنه يدمر الشركات الصغيرة ويزيد مشاعر السخط ضد كل من الحكومة ومجموعة «ترويكا». ويبدو هذا المطلب متعارضًا مع مطالب أخرى فرضت على اليونان، مثل إلغاء ضريبة المنبع، والتي تفرض على الأموال المرسلة من اليونان إلى مستثمرين أجانب. وتعد مثل تلك الضرائب المرتبطة بالمنبع ملمحًا من ملامح النظم الضريبية الجيدة في دول مثل كندا، وتشكل جزءًا أساسيًا من جهود جمع الضرائب. والواضح من ذلك أن مجموعة «ترويكا» تهتم بضمان دفع اليونانيين الضرائب المستحقة عليهم أكثر من اهتمامها بقيام الأجانب بالمثل. وهناك الكثير من الملامح الغريبة الأخرى لحزم المعونات التي تقدمها مجموعة «ترويكا»، ويرجع ذلك في جزء منه إلى أن كلا من أفراد المجموعة لديه وصفة علاجية خاصة به. ومثلما حذر أطباء، فإن هذا التداخل قد يسفر عن تفاعلات خطيرة. ومع ذلك، فإن المعركة الدائرة لا تتعلق باليونان فحسب، بل ولا تتعلق بالمال فقط، رغم أن بعض أصحاب المصالح الخاصة في باقي الدول الأوروبية وداخل اليونان استفادوا من مجموعة «ترويكا» من خلال العمل على تعزيز مصالحهم على حساب المواطنين اليونانيين العاديين ومجمل الاقتصاد الوطني للبلاد. وقد عاينت هذا الأمر مرارًا وبصورة مباشرة عندما كنت أعمل بالبنك الدولي، خاصة في إندونيسيا. عندما تتراجع الأوضاع الاقتصادية ببلد ما، فإنه يصبح من الممكن إلحاق بها شتى أنواع الأذى. إلا أن النقاشات الحالية حاليًا تدور في حقيقة الأمر حول الآيديولوجية والسلطة، وجميعنا ندرك ذلك. كما أننا نعي بأن هذا ليس مجرد نقاش أكاديمي بين اليسار واليمين. الواضح أن البعض من تيار اليمين يركز على المعركة السياسية، وينبغي أن تشكل الشروط القاسية التي فرضت على حكومة سيريزا اليسارية جرس إنذار لكل من في أوروبا بخصوص ما يمكن أن يحدث له إذا ما اختار طريق الرفض. وهناك آخرون يركزون على المعركة الاقتصادية، تحديدًا فرصة أن يفرض على اليونان إطار عمل اقتصادي كان من المتعذر فرضه بأي وسيلة أخرى. من جهتي، أؤمن بشدة بأن السياسات التي يجري فرضها لا تنجح، وإنما ستسفر عن كساد بلا نهاية، ومستويات غير مقبولة من البطالة وتفاقم مستمر للتفاوتات. إلا أنني أؤمن كذلك بقوة بالعمليات الديمقراطية - وأن السبيل الوحيد لتطبيق أي سياسة يرى المرء أنها مفيدة للاقتصاد هو الإقناع، وليس الإجبار. في الوقت الراهن، أبدت الحكومة اليونانية إذعانها، لكن ربما مع تحول نصف العقد الضائع إلى عقد ضائع، وتنامي الدلائل التي تؤكد فشل تلك السياسات، ستستعيد مجموعة «ترويكا» صوابها بمرور الوقت. إن اليونانيين بحاجة لإعادة هيكلة الديون، وإقرار إصلاحات هيكلية أفضل وإقرار أهداف أكثر عقلانية بالنسبة للفوائض المرجوة بالميزانية. ومع ذلك، فإن الاحتمال الأكبر أن مجموعة «ترويكا» ستستمر فيما تقوم به منذ خمس سنوات: إلقاء اللوم على الضحية. * الكاتب حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد وبروفسور بجامعة كولومبيا * خدمة «نيويورك تايمز»