×
محافظة المنطقة الشرقية

«تركي» يكشف أخطاء الزعيم

صورة الخبر

الثقافة عالم مفتوح لا حدود ولا نهاية له. لا نغالي بهذا الوصف للثقافة. وإذا لم تكن الثقافة كذلك، فلا يمكن لها أن تستمر وتتطوّر. الأدب هو جزء أساسي في هذه الثقافة العامة - المفتوحة، وتأخذ كتابة الأدب أشكالاً متعددة ومتنوعة في حاضرنا، فثمة أطروحات وآراء الآن - وغداً - تلغي الحدود بين الأجناس الأدبية وحتى الفنية تحت بند التجديد، مثل استخدام التقنيات السينمائية في الرواية، وغيرها الكثير مما نشاهده كل يوم. وإزاء هذا التحوّل يبرز السؤال: هل أفرزت هذه الأطروحات والآراء، وما لحق بها من تجارب، أي تجديد يمكن إضافته للأدب؟ وهل يمكن أن يتمخّض ذلك عن شكل أدبي جديد، أو الوصول بآدابنا إلى آفاق مغايرة؟ الروائي الطبيب غسان العميري، يرى التجريب في الأدب بعين مُغايرة ورؤية خاصة، ويقول: الحدود قائمة وثابتة بين الأجناس الأدبية والفنية، لكل جنسٍ أدبي أو فني لونه الخاص ونكهته الخاصة. قد يحلّ الشّبه والتشابه بين الأجناس الأدبية والفنية، وقد يشتّد التأثر والتآثر بينها، ولكن يبقى لكل جنسٍ مساره الخاص الذي يأخذه إلى عالمه ومناخه الوحيد، حيث لا آخر سواه. الكتابة الأدبية قائمة على التجريب، منذ بدء الكلمة والتجريب هو عنوان تطورها وسلوكها نحو الأفضل، وكذلك الفنون، تسلك المسار نفسه المؤدي إلى الجديد أو التجدد والتطور. وأعتقد جازماً أن تطور الأدب يأخذهُ إلى مساحة أبعد عن الفن، الفن بما يمثل من وعي داخلي في الروح والوجدان. وكذلك الفن، إذا تطور يسلك مداراً مختلفاً عن الكتابة الأدبية، فلا يلتقيان إلاّ في الجوهر، ويبقى الشكل خارج هذا التشابه. ثم إنني أرى في الجوهر كل ما هو أساس في الشكل والمعنى، لذلك تبقى الحدود واضحة وفاصلة بين الأجناس الأدبية والفنية. إن التجريب في الأدب هو نتيجة وضرورة، وكذلك التجريب في الفن، ويجب أن لا نكون أسرى كلمة تجريب أو معنى التجريب. فكل ما هو قائم ومستمرّ في الحياة يقوم على التجربة أو التجريب. إذا لم نُجرّب فلن نعرف الجديد وكذلك لن نعرف القديم والسابق. وهذه القاعدة إذا خضع لها الأدب أو الفن، فإنها تأخذ كل واحد منهما إلى تجريب آخر، وتالياً، إلى بناء هرمٍ جديد، وكل هرم له شكل مختلف ولون مختلف ومعنى مختلف، ولو حمل الاسم نفسه التجريب. يخلص العميري إلى القول، الإبداع ليس له ما يحدده ويرسمه وفق منهج ثابت ومستمر. كل إبداع فني أو أدبي ينطلق مستقيماً، لكنه لا يبقى على استقامته في مسافته المفتوحة. يخرج عن مساره، لا ليخطئ الهدف، بل ليصوّب الهدف، ويستمرّ على هذا المنوال حتى إشعار آخر، وحتى ولوج مسافة أخرى مفتوحة، غير مقفلة إطلاقاً. الشاعر والكاتب أسعد جوان، يكتب بالفصحى وبالمحكية اللبنانية المحلية (العامية)، وأصدر عشرات الكتب والأبحاث التي تحمل في طيّات قصائدها وفي فلسفة أبحاثها لمسات التجريب والاختزال والتفسير المفتوح على حقول المعنى، ويقول جوان عن تجربته الكثير، ويتوقف عند سؤال التجريب بالقول والشرح: لا بُدّ أن يتمخّض عن الأدب أو الكتابة الحديثة، ما هو أبلغ وأقدر، ما هو أفعل وأنجع. ذلك أن الكتابة الأدبية وسواها من أنواع الكتابة، تمثّل في قرارة وجودها ومبررها هذا التحوّل أو هذا التجريب. فإذا نظرنا نظرة سريعة إلى تجارب بعض الأدباء الكبار الذين سبقونا ومدّوا لنا بساط الإبداع والشعر، نجد أن تجربة أو تجارب هؤلاء لها حضورها الآني في واقعنا، لكنه حضور متحوِّل، حضور لولبي دوّخنا وأخذنا إلى مساحات تأثر وفوضى ورشاقة. فقد تأثرنا، نحن أبناء الجيل التالي، بتجارب هؤلاء، أخذنا منهم الوعي الإبداعي واستعملنا أدواتهم وعدتهم الإبداعية وعمّرنا هيكلنا الخاص، هيكل لا يشبه إلاّ نفسه، لم نسقط في التقليد، تقليدهم، بل خطونا من أمام ظلالهم وعبرنا إلى خصوصيتنا. كل هذا الفعل، وكل هذا النشاط الذي اختزلنا به أعمالنا، كان على تماسّ مباشر مع معنى التحوّل والتجريب. لو لم ننأ عن أسلافنا، لكانت أعمالنا الأدبية حركة بلا بركة، لكن قوة الفعل في التجريب أخذتنا إلى مناخ التحوّل والتجديد.. بهذا المعنى يمكن القول، إن فعل التجريب في الأدب وفي الكتابة الحديثة اليوم قد فتح آفاقاً مغايرة في الأدب، ومنذ الماضي البعيد. واليوم يأخذ هذا الأدب المغاير مكانته الأفصح والأرحب، ونجد أن تجارب الأجيال المتعاقبة هي الجواب الساطع عن سؤال التجريب وقدرته الفاعلة في رفد التحوّل والإنجازات وضخّها بالمزيد من الوعي، الذي يقود للتجريب وللتجدد والتجديد والتطوير أيضاً. أما أن يلغي بند التجرّيب الحدود بين الأجناس الأدبية، فهذا أمر غير قابل للتحقق، ذلك أن الأدب، على اختلاف أنواعه، هو شكل ضمن أشكال أي أن الشكل الأدبي موزّع وفق أصول لا يمكن جمعها وربطها وصقلها في سياق مُتكتّل. الكتابة الأدبية هي فعل جمالي خلاّق، لا يمكن لجمالها أن يتجانس. إنه فعل خاص، يحفر في مكانه، وينبت في مكانه.. ومهما تلاقت وتأثّرت الأعمال الإبداعية بعضها ببعض، فإنها تبقى في مساحتها، مساحة كل صورة وكل فكرة وكل كلمة، تبقى مساحة برّاقة تعكس أشعتها، لكنها تبقى أشعة من وهج خاص جداً، لا يمكن أن يتداخل في أشعة أخرى. الكتابة الأدبية بالنسبة لي، هي عملية تجريب مستمرة، ربما وصلتُ إلى قناعة أدبية ثابتة وربما لا.. المهم أنني مستمر في التجريب، ولا أرى في هذا التجريب ما يجعلني أخسر مساحتي الإبداعية - الأدبية التي عرفتها وانطلقت من خلالها، فمازلت على دربها أعيش وأحيا، وأنأى في خصوصية أدبية لا تتشابه مع سواها. الروائية الكاتبة نيرمين الخنسا، تكتب القصة القصيرة والرواية، وتنطلق بكتاباتها من خصوصية مُغايرة لمن قرأت وتقرأ لهم من الكتّاب الكبار، وترى كل ما تكتبه في السياق الروائي مساحة أدبية جديدة ألعب عليها، مُستعينة بفنون وتفاصيل فنية وتقنية من وحي الواقع والعصر الذي نعيشه في ظل تطور التقنيات والأشكال الهندسية الكثيرة والواسعة. وتقول نيرمين: من الطبيعي جداً أن تأخذ الكتابة الأدبية، بكل ألوانها وأطيافها، شكلاً جديداً يتماشى ويتناسب مع تطور الحياة وتطورات الزمن، بما يحمل من اختراعات وابتكارات أنتجها الإنسان حتى يومنا الحاضر. فثمة كتابات نلحظها متداخلة ومتناغمة ضمن حدود كبيرة. فثمة روايات حديثة تختزن في طياتها الكثير من الشعر والمشاهد البصرية، وكأنها تستعير من الشعر أو السينما ما تحتاج إليه لبناء الهرم الروائي، وهذا ما لم نعرفه سابقاً. والعكس يجوز أيضاَ، إذ نلحظ كتابات شعرية معينة، مُستغرقة في الوصف والشّرح والتفصيل، كأنها أيضاً تستعير من الرواية بعض أدواتها الوصفية. كذلك نلحظ كتابات خاصة، لم تنتشر بعد، تلتزم التزاماً كلياً المشهدية البصرية والإيقاعات الصوتية - الإيقاعية- النغمية، إلى حدٍ ما... ولكن، رغم كل هذا التحوّل في الكتابة الأدبية، لم نصل بعد إلى مرحلة يمكننا القول إنها مرحلة فرز لما بعد الكتابة الكلاسيكية والحديثة. ربما نحن اليوم على تقاطع مفصلي بالكتابة الأدبية. والأرجح أننا نعيش اليوم، مرحلة التجريب، وهذا التجريب مازال على وتيرته ويميل إلى الجنوح نحو آفاق جديدة. وهذه الآفاق تُبشّر وتكشف عن تجارب قد تأخذ الأدب، آدابنا إلى مرحلة التجريب الناجح، والذي سيجرّنا إلى التجريب التالي، وهذا أمر طبيعي في السياق المتطور للكتابة بشكل عام. يقول القاص الدكتور أحمد الخميسي: إن الأجناس الأدبية نشأت على أساس التداخل، السرد في الملاحم الأولى كان يضم مقاطع من الحوار، وفي ما أبعد داخل المسرح حيث الحوار هو الأداة الرئيسية واتسعت المساحة للسرد في شكل مونولوجات الأبطال/ الشخصية، الأكثر من ذلك أن اللغة نفسها نشأت بالتداخل مع الموسيقى! تداخل وتفاعل الأجناس الأدبية ليس جديداً، لكنه أيضاً لم ينف الحدود الفنية والشكلية لكل جنس، والذين يتحدثون عن استخدام التقنيات السينمائية في الأدب كان عليهم أن يتحدثوا قبل ذلك عن استخدام السينما للأدب، هذا التداخل لم يحطم الحدود بين الأشكال، ولا أظنه سيحطمها، لأن معنى تحطيم تلك الحدود انتفاء كل الأجناس الأدبية والاكتفاء بجنس واحد يضم كل مقومات الأشكال الأخرى، تظل القصة القصيرة محكومة بعدد أقل من الصفحات، وبأنها ابنة اللحظة، بينما تستعرض الرواية حياة ومصير شخصيات أو شخص كاملة. ويرى الخميسي أن التداخل مفيد ويمنح إمكانات أوسع للإبداع لكنه لا يعني ذوبان شكل داخل شكل، أو انتفاء شكل لمصلحة آخر. ويضيف: البشر يتداخلون في العلاقات الشخصية ويظل لكل منهم شكله ومضمونه وحياته، التداخل قد يضيف جديداً، لكنه لا يحذف ما هو موجود، أما عن خلق شكل أدبي جديد فهذا صعب جداً لأن خلق تلك الأشكال هي عملية تاريخية طويلة ومعقدة، وقد جرب توفيق الحكيم خلق مسرواية أي ابتكار شكل يجمع بين الرواية والمسرحية، لكن ذلك لم يخلق شكلاً جديداً، لا أظن أن أشكال التداخل والتفاعل قادرة على خلق شكل أو جنس جديد، هي قادرة على إثراء التجربة فقط. على مقربة من الخميسي يقول الروائي الشاب أحمد شوقي علي: إن التجديد ليس وليد اللحظة الراهنة، وإنما نتاج المنجز الأدبي بشكل عام، ولا يحمل لواءها لكتاب الشباب فقط في أي زمان، فهو طموح الأديب وليس غايته في الكتابة، فكل مبدع يعكف على كتابة عمل جاد، يشغله ذلك الطموح بقدر ما تشغله الفكرة الرئيسية لعمله، فنجيب محفوظ - مثلًا- لم يكن شاباً حين كتب حديث الصباح والمساء، ولو لم يكن ذلك الطموح لكنا أمام نموذج أدبي ثابت يختلف باختلاف عناوينه فقط، لكن نبل ذلك الطموح لا يشفع وحده للكاتب كي يصير مجدداً، وإنما يلزمه الاتصال بذلك الميراث الأدبي الذي سبقه، ليس الاتصال بمعنى التحصيل والمواكبة وإنما الاستيعاب والهضم في الوقت نفسه، فقد أخذ يحيى الطاهر عبد الله بناء ألف ليلة وليلة المهترئ درامياً ليصنع منه ثلاثة أعمال أدبية فائقة هي حكايات للأمير حتى ينام، وتصاوير من التراب والشمس، والحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة، كذلك اعتمد عبد الحكيم قاسم على الميراث الشعري العروضي فحوله سردًا في مجموعته ديوان الملحقات. ويضيف شوقي: لعل طموح الكاتب ينشغل بالتجديد في الشكل أكثر من التصنيف، وإن كان ذلك لا يعني انعدام الأخير، فالدكتور محمد المخزنجي منذ أول كتاب له وهو يصنفه كتاباً قصصياً، مع الوضع في الاعتبار أن التصنيف أساساً في حاجة إلى الجرأة - أكثر من الطموح - لمواجهة الناشر وذائقة القارئ وفرض ذلك التصنيف الجديد عليهما، لكننا في النهاية رغم كل شيء أمام حقيقة ثابتة هي أن الأدب المكتوب نوعان، هما: النثر والشعر، وكل شيء ينبثق منهما. ويقول الروائي أحمد إبراهيم الشريف إن الحرية كلمة شهية جميلة لكنها مهلكة أحياناً إن لم يستطع متعاطوها إدراك قيمتها ومن قبل ذلك معناها، والتجديد والتجريب هما أبناء هذه الكلمة، ومن ثم يرى الشريف أن التجديد فرض عين على الجميع لأن هناك ارتباطاً ما بين التجديد والزمن، والاختلاف فقط يكون في سرعة إدراك الزمن ومجاراة تغيره. في روايتي موسم الكبك- يقول الشريف - لجأت إلى فكرة (المتن/ الهامش) بصورة مكثفة، وذلك لكون الصراع داخل الرواية صراعاً ثنائياًُ تقريباً بين (سلطة/ وشعب - فقراء/ وأغنياء - متدينين/ ورجال دين - حرية/ وموروثات - حب/ وكراهية.. وغيرها) لذا لم يكن الهامش والمتن مجرد حلية أجرب بها نصي لكنها كانت طريقة تفكير تسيطر على عالم الرواية، ولم أر أنها إقحام أو قهر للنص.. إذاً يجب أن يكون التجريب له علاقة تجديدية في الكتابة وليس له علاقة افتكاسية، فأنا لا أعتبر أن ترك الصفحات جميعها فارغة في رواية ما أو ديوان شعرى نوعاً من التجريب أو التجديد لكننى أعتبره نوعاً منالافتكاسات الضارة، لكنني أعد الفراغات والتوزيع الكتابي والإيقاع الدلالي البصري وترك مساحات ذات دلالة ما في الكتابة أمر تجريبي، وكذلك كل شخصية مختلفة في الكتابة من حيث البناء والهيكلة والدلالة النفسية هي تجديد، وكذلك أختلف مع التجريب الذي يُفقد النص جمالياته ويدخل به في إطار العلمية البحتة. أما الاستفادة من الفنون الأخرى وكسر الحواجز فقد أصبح ذلك سمة فنية إيجابية تعمل على دفع دماء جديدة في المكتوب وتحطم الأطر المكررة والمعتادة في الكتابة، كما أن ذلك التجاوز سيصنع شيئاً جديداً وينتج فناً مختلفاً، فالاستفادة بتقنيات السينما مثل المشهدية في الرواية بالطبع سوف تترك أثراً أكبر على القراء، يظهر في الاستحواذ الذهني على القارئ، والأثر الذي تتركه القصيدة على القصة القصيرة سوف ينتج نوعاً أدبياً ثالثاً هذا لو كتبت بطريقة جيدة، أما لو أصبح الأمر تلفيقاً فسينتهي بنا للغموض القاتل. ويضيف الروائي والمترجم أحمد عبداللطيف أن التأثير والتأثر بين الفنون وبعضها وارد طول الوقت، بل إنه حتمي حسبما يرى. ويوضح قائلاً: كلما تميزت الرواية، مثلاً، بتقنيات سينمائية منحها ذلك بعداً ديناميكياً، والعكس صحيح، لكن التأثير بين الفنون لا يجب أن يلغي خصائص الفن الأصيلة، بمعنى أنه قد تتأثر الرواية بالسينما، لكن لا يمكن أن تلغي السينما خصائص الرواية، لأن كل فن في الحقيقة له قوانينه الخاصة، والتجريب يتحرك على هامش هذا القانون. ويرى عبداللطيف أن التجريبية هي الضمان الوحيد لبقاء فن الرواية، مؤكداً أنه لا بد أن يظهر كل عدة سنوات كتاب تجريبيون ليحركوا الكتابة من ركودها، ويبحثوا عن طرق جديدة للتعبير. ويتابع: التجريبية في الكتابة تأتي في الشكل، لأن المضمون مكرر في كثير من الأحيان، ولأن موضوعات الفن لا تتعدى 10 موضوعات تقريباً، كافكا مثلاً حرك السرد في اتجاه، وجويس حركه في اتجاه آخر، وبورخيس جاء ليحركه في اتجاه ثالث، وكامو وماركيز ومن قبلهما فوكنر، هؤلاء كتاب شقوا طرقاً جديدة في السرد، فمنحوا فن السرد روحاً جديدة. الشاعر الموريتاني ناجي محمد الإمام يتساءل هل ستختفي الحدود بين الأجناس الأدبية أم تتعزز؟ ويجيب، الأكيد أنها ستتغير وستتوحد تماماً، كما يتجه العلم إلى توحيد المقاييس من مقبس شحن الهاتف الذكي إلى مقابض عبوات الحليب وحمالات السراويل.. إن استخدام الأداة المعرفية نفسها المساعدة في أقاصي نقاط جغرافيا العالم وإمكانية التواصل من خلالها، وتطور الترجمة الفورية وأخطائها الفادحة القادحة بقدر ما يبشر به من تفاهم فإنه ينذر بقدر متفاقم من سوء فهم قادم.. إن الأجناس الأدبية بنت بيئتها الثقافية غالباً والجغرافية/العقدية نادرا وطالما أن الكوننة وصلت كل بيت ونفس وتغلغلت في حميمياتها الأخص، فلا بقاء لحدود أو تصنيفات لا تؤكدها المعطيات الجديدة. الناقد الموريتاني والأستاذ الجامعي الدكتور الشيخ ولد سيدي عبد الله يقول إن وجود جنس أو تسمية أدبية ليس جديدا، وليس صعباً إطلاق تسمية أدبية جديدة على أدب مرحلة معينة ماضية أو مستجدة... لكن السؤال هنا هل المشهدية والفانتازية السينمائية جديدة على الرواية العربية أو السرد أو النثر أو الحكي العربي؟.. الجواب كلا قطعا، ففي ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة مشهدية سنيمئاية معروفة طافحة بالفانتزيا والخيال واللاواقع والمستحيل.. وبالنسبة للتقنيات السينمائية وحتى التشكيلية في الرواية ليست جديدة على الأدب العربي، لكن هناك تحد في هذا المجال هو أننا لا نملك في الوطن العربي وحدة مصطلحات نقدية، حتى في المدارس القديمة نسبياً، إذ سبق لناقد عربي أن أحصى ستة عشر مصطلحاً للرومانسية عند النقاد العرب. ويقول ولد سيدي عبدالله إن حمى الأجناس الأدبية موجودة عند العرب منذ القدم، وفي كل أشكال الإبداع من شعر ونثر، وبالتالي لا يعد البحث عن شكل جديد بحد ذاته إضافة، أو أفقاً للإبداع، بل إبداعية النص في حد ذاته. وبدلاً من اللعبة التقليدية التي تتعلق بشكل أدبي جديد، أميل إلى انفتاح الأجناس الأدبية على الأجناس غير الأدبية حتى.. كالرياضيات، فهل يجرؤ روائي على تجريب آفاق جديدة فعلاً. الشاعر الدكتور خالد عبد الودود يقول لقد ظل الأدب العربي إلى وقت قريب يقوم على أشكال وأجناس محددة الملامح. هذه الأشكال هي في الأساس الشعر والرواية والقصة والمسرح. ومع استمرار تطور العقل والفكر العربي ونتيجة للمحاولات المستمرة للتجديد في هذا المجال أفرزت الحداثة في مرحلة ما مزيجا رائعا اقتحم الحدود البينية لهذه الأجناس الأدبية ووظف جمالياتها وكسر قوالبها التقليدية الجاهزة ليعطي بذلك صورة ثلاثية الأبعاد. وإذا كان الإبداع الأدبي قديما يُقاس بمدى نقاء الأثر الفني، فإنه أصبح الآن ينحو إلى أن يقاس بعكس ذلك أي بمدى التنوع والثراء داخله. وهذا نتيجة طبيعية لتقارب وتجاور، بل وتمازج تجارب الأمم والشعوب والثقافات في عالمنا المعاصر، وللفيض المعرفيّ الحر للمعلومات ووسائل الاتصال، والعواصف التكنولوجية الهائلة التي جعلت من التجربة الإنسانية بساطاً واحداً يتشاركه البشر ويتقاسمونه على اختلاف انتماءاتهم العرقية والدينية والإيديولوجية، ولهذا جاءت ظاهرة القطيعة مع الأجناس الفنية لتدشن مرحلة جديدة تماماً في تاريخ الأدب العالمي برمته. ويمكننا القول دون اجتراء إن ظاهرة تحطيم الحدود الفاصلة بين صنف أدبي وآخر هي التعبير الناجز عن توق الأديب المتواصل إلى تحقيق أعلى مستويات الحرية الإبداعية في الأثر الفني. والواقع أن ظاهرة المزج بين أصناف أدبية شتى ليست جديدة، بل إن لها جذوراً عميقة، متمكنة في التراث الأدبي الإنساني، إذ يمكن أن نلمحها في آثار أدبية خالدة منذ بدايات القرن الفارط. الشاعر الموريتاني حسني ولد شاش يقول لا شك أن التجريب في الأدب سعى إلى تجاوز نظرية الأجناس الأدبية، التي أثارت منذ أرسطو وحتى النقاد الحاليين نقاشا مستفيضا، ويضاف لهذا النقاش الآن ما وفرته تقنيات الحداثة التعبيرية إن صح التعبير من سينما وتشكيل وغيره، من أساليب تركت بصمتها واضحة على كثير من الإنتاج الأدبي العالمي والعربي، كما مكنت من تحرير المبدع من القواعد الكلاسيكية الصارمة للقوالب بحيث بات ينشد العمل الأدبي الخالد أكثر مما يلقي بالا لتجنيس نصه. واليوم، ومع تحول العالم إلى فضاء واسع للنشر والبوح بفضل وسائط التواصل الحديث، فإن مهمة النقاد والمختصين ستزداد تعقيداً أمام الأدب الإلكتروني وأساليب تعبيره المراوغة، فهذا الأدب الرقمي لا يأتي من بيئات أدبية مختصة بالضرورة، بل أملته ضرورة التعبير عن المشاعر والأحاسيس في ظل فضاء مفتوح منتشر على مدار اللحظة. ولهذا فإن أسئلة كثيرة تثار اليوم مثلاً حول الشعر الفيسبوكي، أو التويتري، والنص الرقمي التشعبي وحول التدوينة، التي تختزل أحيانا كيفاً أدبياً راقياً. وإذا نظرنا إلى الأطروحات والآراء في هذا المجال، فإنني أتشجع وأقول إن الأطاريح والنظريات والدراسات النقدية لم تستطع أن تواكب التحول الذي يعيشه الأدب العربي، بل إنها إلى حد ما اقتباسات عن نظيرتها العالمية، المتخبطة هي الأخرى حتى الآن في مجال التجريب. وأرى أن العقل الأدبي المولع بتجاوز الحدود وسبر أغوار ما بعد المألوف سيظل يبحث عن أجناس أو أشكال تعبيرية أدبية جديدة، وهذا صحي تماما، بل هو المطلوب، وأنا مطمئن إلى أن أدبنا العربي يخطو نحو آفاق جديدة، وأنه أدب عالمي مبدع بمستوياته كافة وقد استفاد بشكل واضح من أدوات عصره، وإن كانت تحديات الترجمة ما تزال تشكل عائقاً حقيقياً أمام الأدباء العرب، إلى جانب القصور النقدي الواضح في الساحة الأدبية العربية، وما يلحق الادب العربي من إهمال إعلامي ومن تناكر بين المبدعين والمثقفين العرب. وبكلمة واحدة، فإن الأدب العربي اليوم يحمل أكثر من شكل أدبي جديد، ويخطو نحو آفاق مغايرة، وذلك ما يلمس من داخل النصوص وبيئاتها التعبيرية والفنية.