من الطبيعي أن يستثير الاتفاق النووي بين إيران ودول الغرب أسئلة وتعليقات عربية متناقضة، تحفل بها اليوم وسائل الإعلام كافة. فمن محذِّر من أخطار الاتفاق على الأمن القومي العربي، والتهويل بالأوضاع الصعبة المقبلة نتيجة إطلاق يد إيران في المنطقة بعد استعادة قوتها المادية، ومنها ما يبشِّر بتراجع إيراني وانكفاء الى الداخل، بما يساعد على تبريد الملفات الساخنة في المنطقة، والحدّ من التدخل الإيراني في الأقاليم. لم تنتظر إيران إنجاز الاتفاق النووي لتصعّد من تدخّلها في المنطقة العربية، ومدّ نفوذها الى أكثر من قطر. فالمشروع الإيراني مندفع منذ أكثر من عقد، وبالتحديد منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، الذي قدّمت فيه الولايات المتحدة هذا القطر بأسهل الطرق الى النفوذ الإيراني. وأتت انتفاضات الربيع العربي لتزيد من هذا التدخل، في ظلّ الانهيارات البنيوية التي ترافقت مع الانتفاضات في أكثر من قطر عربي. والمشروع الإيراني المستند الى القومية الفارسية، التي تحمل عداء للعرب يعود الى أربعة عشر قرناً، والمستند الى عصبية مذهبية تستحضر الصراع التاريخي على السلطة بين القبائل العربية منذ الأيام الأولى لوفاة الرسول، هذا المشروع يحمل في جوفه عناصر التوسع موضوعياً كوسيلة لاقتحام منطقة عربية كان ولا يزال يرى فيها المدى الحيوي للجغرافيا الإيرانية، وميداناً للتوسّع والنفوذ اللذين تحتاجهما إيران في وصفها دولة إقليمية «عظمى» وفق تصنيفها لنفسها. إذا كان الاتفاق النووي قد أعطى إيران مكتسبات، من دون شك، مقابل تنازلات مسّت خطوطاً حمراء كانت القيادة الإيرانية ترفضها سابقاً، فإن هذا «الترييح» الغربي لإيران لا يعني زوال الضغوطات والحصار المفروض عليها كلياً، وهو أمر بدأ يظهر منذ اليوم التالي لتوقيع الاتفاق والحديث عن دعم إيران الإرهاب. تدرك القيادة الإيرانية أن الاتفاق سيكون مدار نزاع داخلي في ظل صراع مراكز القوى، وأن الأزمة الداخلية حوله ستمتد الى فترة غير قصيرة. في ظل هذا الوضع، لن يجد الملالي أفضل من تصريف هذا النزاع ونقله الى الخارج بالاستمرار في التدخل في الأقطار العربية، ما ينفي إمكان انكفاء إيران الى الداخل والحدّ من استفزازتها للعرب. في المقابل، استقبل العرب «الرسميون» الاتفاق بخليط من الترحيب والحذر. لكن السائد هو الارتباك في تحديد المواقف العملية من السياسة الإيرانية المندفعة. يدرك العرب أن الصراع مع إيران دفعت به سياسة الملالي الى نزاع مذهبي مدمّر لكل الأطراف. فالعرب لم يكونوا المتدخلين في الشؤون الإيرانية، ولا وجود لطموحات إقليمية لأي دولة من الدول العربية. لكن إيران تمادت بالتدخل بما مسّ الهوية الوطنية العربية، وسيادة الدول وتهديد كياناتها عبر تفجير البعد المذهبي للخلافات. من هنا يصعب الوقوف على الحياد بين سياسة إيرانية هذا طابعها، وبين موقف دفاعي عربي يحاول التفلّت من الهيمنة الإيرانية الزاحفة. إذا كان المشروع الإيراني مندفعاً استناداً الى تماسكه المذهبي الداخلي، فإن العرب يبدون في حالة من التشويش والضياع في كيفية مواجهة هذا المشروع. فالعالم العربي كفّ عن أن يكون متضامناً في التحديات الكبرى التي تواجهه، وهو يعاني من تفكّك بناه وانهيار مقومات كياناته، وبالتالي أنظمته والتعبير عن ذلك بنزاعات أهلية بين عصبياته من قبائل وعشائر وطوائف وإثنيات. ما يعني أن معضلة العرب كبيرة جداً في المرحلة الراهنة والمستقبلية. التحدّي مطروح على العرب، والسؤال موجّه الى قياداتهم ونخبهم عن انهيار مقومات التحديث والحداثة، على قلّتها ومحدوديّتها، والأخطر من ذلك هو هذا الانزلاق العربي بجواب طائفي ومذهبي على غرار المسلك الإيراني. هذا الجواب ستكون له ارتدادات ضخمة على مسار التطور العربي وعلى العلاقات الإقليمية والدولية، والأهم على النسيج الوطني والاجتماعي المهدّد بمزيد من التفكّك. إن العلاقات العربية – الإيرانية ليست مفتوحة على التسويات والجيرة الحسنة، بمقدار ما هي مفتوحة على استحضار الرموز الدينية والمذهبية وتنصيبها سلاحاً في الحرب المفتوحة، والتي لا يتوقع لها أن تخبو في الأمد القريب. فهل ستؤدي هذه الصراعات الى توليد نقيض من القوى التي تستشعر هذا الخطر، وتطرح برنامجاً ديموقراطياً يقوم على تسوية للعلاقات بالطرق السلمية ضمن حق كل دولة بحماية مصالحها؟ والأهم، هل يمكن للمنطقة العربية إعادة توليد مشروع نهضوي لحمته «عصبية» عروبية تسمح بتجاوز الصراعات المذهبية القائمة؟ أسئلة برسم المجهول حتى الآن.