عبد الله بن بجاد العتيبي لا بد من الاعتراف بأن الباحث في هذا الموضوع يواجه صعوباتٍ جمةٍ منها: أولا: شحّ المصادر المستقلة التي تتناوله مباشرةً، ثم ثانيا: السريّة التي تعتمد عليها هذه الجماعة أكثر من اعتمادها على العلنيّة، فما تعلنه لا يعبّر عن حقيقتها بالقدر الذي يعبر عنها ما تخفيه، ولهذا أسبابٌ منها ما يتعلق بالجماعة ومنها ما يتعلق بالدول التي تعاملت معها، وثالثا: إذا كان ما تخفيه هذه الجماعة في بعض الدول التي صُرّح لها بالعمل فيها من دول الخليج تحت مسمّى جمعية الإصلاح كالكويت والبحرين والإمارات، يكتنفه الغموض فكيف بدولةٍ كالمملكة العربية السعودية التي لم تسمح أبدا بقيام مثل هذه التنظيمات! رابعا: تعذّر التواصل مع كثيرٍ من المصادر الشفوية التي يمكن من خلالها تغطية العديد من الجوانب الغامضة وجلاؤها للقارئ. يطرح بعض المراقبين تقسيماتٍ للإخوان المسلمين في السعودية، فالبعض يقسمهم فكريا باعتبار بعضهم «بنائيين» نسبةً للبنّا و«قطبيين» نسبة لسيد قطب، والبعض يطرح تقسيمهم حركيا لثلاثة أقسامٍ كالآتي: 1) إخوان الحجاز: وهم منتشرون في الحجاز والجنوب والمنطقة الشرقية. ولهم وجودٌ لا بأس به في بقية المناطق. ويعدّون أقوى تنظيمات الإخوان في السعودية، فهم الأكثر تنظيما وتأثيرا وانتشارا. 2) إخوان الرياض أو القيادة العامة: وهم نخبة من الإخوان المسلمين ليس لهم تأثير أو انتشار كبيران، ويكاد نشاطهم يقتصر على المشاركة في بعض البيانات الجماعية التي ظلت لفترةٍ طويلة تمثل أنياب الإسلام السياسي في السعودية من شتى التيارات وبالدمج بينها بحسب كل حدثٍ أو موضوع. 3) إخوان الزبير: وهم مجموعة من أهل الزبير، أو «الزبارة»، وهم مجموعة من العوائل السعودية هاجرت في السابق لبلدة الزبير في جنوب العراق وانتسب بعضهم لجماعة الإخوان المسلمين هناك، وبعضهم لحق بالتنظيم أثناء الاجتماعات العائلية التي يعقدها أهل الزبير كآلية للتواصل الاجتماعي بينهم بعد عودتهم للسعودية. وهم في الغالبية مسالمون وبعيدون عن الصخب مع بعض الاستثناءات. ولا خلاف بين التقسيمين، فالأول فكري والثاني حركيٌ، ونميل للتقسيم الثاني بناء على متابعةٍ طويلةٍ لجماعة الإخوان في السعودية وحواراتٍ ونقاشاتٍ متعددة مع بعض عناصر الإخوان السابقين ومع بعض المراقبين والمهتمين بالموضوع. وثمة مجموعة من الأسماء تنسب لكل فرع من هذه الفروع الإخوانية، لكننا لم نذكرها لعدم توافر المصادر التي يمكن الاعتماد عليها، ولطبيعة السريّة التي تعتمدها هذه التنظيمات. غير أننا نجد في موقع «الموسوعة الإخوانية» النصّ الآتي: «بدأ نشاط تنظيم الإخوان المسلمين في السعودية بشكل واضح في فترة حكم الملك فيصل بن عبد العزيز ملك السعودية في الفترة بين (1964 - 1975). وقتها كانت العلاقات بين السعودية ومصر التي كان يرأسها وقتئذ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في أقصى توترها بين الدولتين ذواتي النظامين السياسيين المختلفين جذريا. لاحقا وبعد رحيل الرئيس عبد الناصر، وحدوث تقارب بين خلفه الرئيس أنور السادات والملك فيصل بن عبد العزيز، سعى فيصل لإحداث تقارب بين الإخوان والسادات. سيطر المنتمون للإخوان المسلمين على المناحي التعليمية في الجامعات تحديدا في عقدي السبعينات والثمانينات، وكذلك على المنابر الإعلامية خاصة في فترة حكم الملك فيصل في السعودية». وجاء في الموقع نفسه أيضا: «لا يعرف على وجه الدقة عدد المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين في السعودية، كما أنهم لا يوجد لديهم من يسمى (المراقب العام للجماعة) كما في الأردن وسوريا على سبيل المثال، من أعلام حركة الإخوان المسلمين في السعودية: علي بن عمر بادحدح، عبد الله بن عقيل بن سليمان العقيل، سلمان بن فهد بن عبد الله العودة، فتحي الخولي، مناع بن خليل القطان»، ونسبة العودة لجماعة الإخوان المسلمين خطأٌ، فهو على الأرجح سياسي مستقلٌ برؤية إخوانية. علّق الباحث حلمي النمنم على حديث ولي العهد وزير الداخلية الراحل الأمير نايف المذكور سلفا، والذي اعتبر فيه الإخوان مسؤولين عن «إفساد الأمة واستخدام الدين لتحقيق مآرب سياسيةٍ صغيرةٍ» بقوله: «في ذلك الوقت ظهرت تحليلات عديدةٌ لهذا الموقف من وزير الداخلية السعودي، الذي كان يعبر عن موقف المملكة، من بينها أن الجماعة خرقت اتفاقا قديما مع المملكة بعدم تجنيد أي من مواطني المملكة، لكن تبيّن للمملكة أن الجماعة اخترقت في بعض المدن عن طريق بعض النساء السعوديات وجندتهنّ» حلمي النمنم، «حسن البنا الذي لا يعرفه أحد»، ص 107، وهو يعزو لمجلة «المصوّر» عدد 2 يناير (كانون الثاني) 2003، مقال مكرم محمد أحمد «الوقائع الخفية بين السعودية والإخوان المسلمين». لقد كانت إحدى الفوائد التي تمخّضت عنها الأوضاع الجديدة بمصر هي افتضاح العديد من الأتباع في السعودية بأسمائهم وكلماتهم المعلنة والموثقة وبياناتهم الجماعية التي اعتادوا على مثلها زمنا طويلا. ولكن قبل الدخول في هذا، فقد كانت لديهم مهماتٌ خطيرةٌ، ومن أهمها محاولة خلق خطابٍ ديني جديدٍ يبرر خيارات الإسلام السياسي في السلطة، وهو ما كان متوقعا أن يأتي من جماعة الإخوان المسلمين الأم بمصر، لكنّ المثير هو أنّ مثل هذا الطرح التأصيلي الشرعي لخيارات الإسلام السياسي في السلطة جاء من السلفية السياسية في السعودية وتحديدا من بعض باحثيها ورموزها وتياراتها الجديدة التي تدمج السلفية بالحركية تحت مسمياتٍ متعددة لا تفترق في التسمية إلا بقدر ما تتفق في الرؤية، سواءً تعلّق الأمر بخيارات الإسلام السياسي في دول الربيع الأصولي أو في دول الخليج كالسعودية والإمارات والكويت، والسلفية السياسية كما هو معلومٌ هي وليدٌ خداج بين الإخوان المسلمين والسلفية التقليدية. اعتمد خلق ذلك الخطاب على عدة محاور في تشكيله: * أولا: المحور الفقهي * وهو محورٌ اعتمد على تقديم محاولاتٍ فقهيةٍ جديدةٍ تمنح مجالاتٍ أرحب في التعامل مع مؤسسات الدولة وبيروقراطيتها والبنوك من خلال المصرفية الإسلامية أو تجاه ظاهرة الأسهم أو نحوها مما يسمّيه الفقهاء بفقه المعاملات، وذلك لتسويق الخطاب لدى السياسي بأنه عملي ومنفتحٌ، ولتسويقه لدى العامة باجتذابهم للتسهيلات الفقهية التي يقدمها لهم فيكتسبهم أتباعا يمكنه توظيفهم كداعمٍ سياسي. * الثاني: المحور التاريخي * وهو محورٌ أريد به إعادة كتابةٍ جديدةٍ للمشهد التاريخي في السعودية، بحيث تتم إعادة رسم المشهد بأولويات ومعايير جديدةٍ يراد منها بناء جذورٍ تاريخية ودينيةٍ لتيارٍ جديدٍ يتشكل وهو في مرحلة تطويرٍ مستمرةٍ، وهو ما كان من الممكن رصده في كتبٍ ومقالاتٍ وتدويناتٍ متعددة. * الثالث: المحور الحقوقي * بحيث يتم تصعيد هذا المحور سياسيا ودينيا على مستوى الخطاب وعلى مستوى الممارسة ليصبح أداة ضغطٍ سياسيةٍ يمكن من خلالها وبالتحالف مع المؤسسات الغربية، حكوميةً أو حقوقية أو إعلامية، لتشكيل ضغط على صانع القرار السياسي بل والتوجه السياسي بشكلٍ عامٍ. * الرابع: المحور المفاهيمي * وهو المحور الذي تتم فيه إعادة خلط المفاهيم عبر غربلتها وتفتيتها وإعادة بنائها من جديد، وهي عملية تتم على نحو جزئي يراد له التكامل لاحقا، وهي تخرج منجّمةً حسب الحوادث والمستجدات، ولنأخذ مفاهيم من مثل مفهوم «التوحيد» أو مفهوم «الدولة»، مفهوم «الشريعة» أو مفهوم «العدالة»، ونحوها من مفاهيم دينية لها دلالاتٌ تراثيةٌ في النظرية السياسية السنية تتم إعادة تفسيرها بهدف أدلجتها وتوظيفها سياسيا، أو مفاهيم غربية كـ«الديمقراطية» أو «الحرية» تتم إعادة تبيئتها داخل منظومة الخطاب الديني الجديد بهدف إعادة إنتاجها لتوظيفها سياسيا. * خامسا: المحور السياسي * وهو المحور الرئيس الذي تقود إليه بقية المحاور، بحيث يتمّ في هذا المحور تحصيل نتائج جميع المحاور السابقة في بناء خطاب وتوجه سياسي يكون من القوة بمكان يستطيع فيه فرض نفسه على المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي برمّته. يقوم هذا الخطاب على توظيف المفاهيم السلفية التقليدية مع تفريغها من محتواها العقدي إلى محتوى آيديولوجي سياسي صرف، فمثلا يتمّ تحويل مفهوم «التوحيد» الذي ينشغل بعلاقة العبد بربه «حق الله على العبيد» إلى «توحيد سياسي» ينشغل بعلاقة العبيد بالعبيد كما طرح حسن حنفي قديما، فينشغل بالتالي بالتوازنات السياسية وطبيعة الدول وأشكال الحكم وتعزيز المعارضة السياسية باعتبارها توحيدا دينيا. لقد انخرط إخوان السعودية وسروريوها وسلفيوها المسيّسون في الحدث المصري، وتبنوا جميعا خطاب جماعة الإخوان المسلمين المتشدد وغير الواقعي جملة وتفصيلا، وقسموا الشعب المصري لإسلاميين من جهةٍ، وكفار ومنافقين من جهةٍ أخرى، وقد جاء موقف حزب النور السلفي ليفضح هؤلاء الخليجيين عقديا وواقعيا بعدما فضحوا أنفسهم سياسيا، ومن هنا فلا غرو أن تقوم دول الخليج بإجراءاتٍ قانونيةٍ أو نظاميةٍ ردا على هذين الافتضاحين. أخيرا، وباعتبار ما تقدم، فهل يشكل إخوان السعودية خطرا؟ وإن كانوا كذلك فأين تكمن تلك الخطورة؟ أما أنهم يشكلون خطورةً فبالتأكيد نعم، لأسباب متعددة سبق بسطها وتوضيحها، وأما أين تكمن تلك الخطورة ففي عدة مستويات: المستوى الأول: عدم وجود سياسة خليجية موحدة تجاههم، وبخاصةٍ في ظلّ مساندة إحدى دول الخليج، وانحيازها لهم واستقطابهم وتقديم أنواع الدعم المادي والمعنوي لهم، وهو ما اتجهت السعودية لحسمه عبر مواقف حازمة. المستوى الثاني: تغلغلهم في مؤسسات الدولة حسب الخطة التي اعتمدتها جماعة الإخوان المسلمين، وحسب تنظيرات العراقي محمد أحمد الراشد المذكورة سلفا، وتسنمهم لمناصب شديدة الأهمية والحساسية. المستوى الثالث: خبرتهم الطويلة في العمل السري الموالي لأجندة الجماعة الأم والتنظيمات المحلية السرية وبالتالي القدرة على الاستمرار والتخفي. المستوى الرابع: سيطرتهم على موارد مالية ضخمةٍ سواء من خلال مؤسسات رسمية أو خيرية. المستوى الخامس: سيطرتهم مدة طويلة على مؤسسات التعليم العام، وبالتالي اعتقالهم لأفكار أجيال من المسؤولين الذين وإن لم ينتسبوا لهم علنيا لكنهم تخرجوا من مدرستهم وتم اعتقال أفكارهم وتصوراتهم. المستوى السادس: سيطرتهم على التعليم العالي لعقودٍ نحّوا فيها خصومهم وقدّموا رموزهم، وبالتالي فهم يسجلون حضورا لافتا ومستغربا في الجامعات. المستوى السابع: قدرتهم الخطيرة على نشر الضغائن وإثارة الإحن بين المواطنين واستغلال مطالب عامة أو أخطاء معينة لشق الصفوف، وهو ما يرجح عودتهم إلى ذلك في المرحلة المقبلة. الخاتمة أصدر العاهل السعودي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في 3 فبراير (شباط) 2014 أمرا ملكيا جاء فيه أنه «انطلاقا من مقاصد الشريعة.. وتأسيسا على قواعد الشرع بوضع الضمانات اللازمة لحفظ كيان الدولة من كل متجاوزٍ للمنهج الدستوري المستقر عليه في المملكة العربية السعودية بما يمثل نظامها العام.. وانطلاقا من واجبنا نحو سد الذرائع المفضية لاستهداف منهجنا الشرعي وتآلف القلوب عليه من قبل المناهج الوافدة، التي تتخطى التبني المجرد للأفكار والاجتهادات إلى ممارساتٍ عمليةٍ تخلّ بالنظام، وتستهدف الأمن والاستقرار.. وتلحق الضرر بمكانة المملكة عربيا وإسلاميا ودوليا... وعملا بقواعد المصالح المرسلة في فقهنا الشرعي»، ثمّ سرد الأمر الملكي مجموعة من العقوبات تتراوح بين الثلاث سنوات إلى الثلاثين عاما على بعض الأفعال والتصرفات كـ«المشاركة في أعمالٍ قتاليةٍ خارج المملكة.. أو الانتماء للتيارات أو الجماعات الدينية أو الفكرية المتطرفة أو المصنفة كمنظماتٍ إرهابية داخليا أو إقليميا أو دوليا». ويشمل الأمر الملكي «التأييد» أو «التبني للفكر والمنهج» أو «الإفصاح عن التعاطف» أو «تقديم الدعم المادي والمعنوي» أو «التحريض» أو «التشجيع» أو «الترويج» بأي شكلٍ وأي وسيلة، ثم الأمر بتشكيل لجنةٍ تنفيذيةٍ وآلية للمتابعة مرتبطةٍ بالملك، ومنح مهلةً تمتد لثلاثين يوما من تاريخ نشر الأمر الملكي. كان الأمر الملكي صانعا لتاريخٍ جديدٍ في المملكة العربية السعودية وفي العالم العربي والعالم أجمع، وقد جاء البيان الذي أصدرته اللجنة التنفيذية التي تمثلها وزارة الداخلية السعودية في 7 مارس (آذار) 2014 لينهي الجدل ومحاولات التشويش التي اتبعها إخوان السعودية ومن في حكمهم ويضع النقاط على الحروف. سمّى البيان عددا من الحركات والتنظيمات وشمل حركات الإسلام السياسي وحركات العنف الديني بشقيها السنّي والشيعي، ومن أهمّ ما جاء في البيان تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كجماعةٍ إرهابيةٍ، وهو تصنيفٌ مستحقٌ فهذه الجماعة هي الأب الشرعي لكل جماعات الإسلام السياسي المعادية لأوطانها ولجماعات العنف الديني، وتاريخها مع السعودية المعروض أعلاه كافٍ في تبيان طبيعتها وطبيعة علاقتها بالسعودية. أخيرا، فإنه ما من شكٍ في أن المهمة السعودية الجديدة جليلةٌ وليست سهلةً بحالٍ في مواجهة جماعاتٍ وتياراتٍ ورموزٍ بهذا التاريخ وهذا الحجم، لكن الكبار مهمتهم مواجهة الكبير من التحديات، وهو أمرٌ يتطلب استراتيجيةً كاملةً وطويلة الأمد تشارك فيها كل مؤسسات الدولة المعنية باستقرار البلاد. * الدين والسياسة بين السعودية والإخوان * منذ قيام الدولة السعودية الثالثة على يد الإمام الراحل عبد العزيز آل سعود، وثمة ارتباطٌ معلنٌ بين الديني والسياسي في البلاد، وذلك يأتي امتدادا للدولتين السعوديتين الأولى (1744 - 1818) والثانية (1824 - 1891). كان هذا الارتباط نابعا من قناعة الملك عبد العزيز بأهمية العامل الديني في تحريك شعوب الجزيرة، وعلى وجه الخصوص في نجد، لأنه العامل السياسي المهم في توحيد كلمة علماء الدين، وتوحيد القبائل البدوية المختلفة وإخضاعها لسلطة الدولة، بل وتوظيفها كجيش قوي مهيبٍ يوطّد الأمن داخل الدولة، ويرهب الأعداء الخارجيين، وذلك في ما عرف بـ«حركة الإخوان». كان الملك عبد العزيز قائدًا سياسيًا فذًّا، وكان وعيه السياسي متقدما على مجتمعه وعلى الأحداث التي تدور فيه وحوله، ومن الطبيعي أن تكون هناك صداماتٌ بينه وبين بعض علماء الدين حول بعض المسائل التي يتشددون فيها على الرغم من عظيم حاجة الدولة لها. أخذت هذه الصدامات شكلا تصاعديا مع اتساع الدولة، وضمّها للحجاز والجنوب والشمال. ونذكر على سبيل المثال: المنتجات الحديثة كالبرقية، واللاسلكي، والتليفون، ونحوها، وتحريم تعليم الأولاد، والموقف من الشيعة، والموقف من علماء الحجاز الصوفية، والموقف من التعامل مع بريطانيا، ورفض استخراج ماء زمزم بالآلات الحديثة، وغيرها من المسائل التي ربما نظر إليها البعض اليوم على أنها مسائل تافهةٌ، لكنها حينذاك كانت تتطلب الكثير من الحكمة المقرونة بالحزم في التعامل معها. وعلى الرغم من قوة العلاقة بين الديني والسياسي في الدولة السعودية بأطوارها الثلاثة فإن ثمة وعيا سياسيا لدى القائد السياسي يختلف تماما عن العالم الديني، وبخاصةٍ في الدولتين السعوديتين الثانية والثالثة. وتذكر مي الخليفة، كشاهدٍ على الوعي السياسي بطبيعة العلاقة بين الديني والسياسي لدى القائد السياسي، عن الإمام فيصل بن تركي أنه قال مخاطبا «بيلي» الإنجليزي الأول، الذي دخل عاصمة الدولة في نجد: «إننا لا نخلط بين الدين والسياسة» (سبزآباد ورجال الدولة البهية: قصة السيطرة البريطانية على الخليج، الطبعة الأولى 1998 المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص 132). وينقل أمين الريحاني حوارا مع الملك عبد العزيز جاء فيه: «سؤالي الأوّل: هل ترون من الواجب الديني، وهل ترون من الواجب السياسي، أن تحاربوا المشركين حتى يديّنوا؟ فأجابني قائلا: السياسة غير الدين» (ملوك العرب، الطبعة الثامنة بلا تاريخ نشر، بيروت، دار الجيل، ص 584). ويقول في الكتاب نفسه عن الملك عبد العزيز: «ولا يبالي إذا كان المشايخ والعلماء لا يرضون دائما عن هذه الخطة العمرانية، إذ ليس لهم أن يعترضوه بشيء في سياسته الداخلية والخارجية». لقد فهم العلماء هذا الموقف من الملك عبد العزيز فهما واضحا، ينقله الملك عبد العزيز بنفسه، فمن كلمة له مع لجنة التحقيق الأميركية البريطانية في 9 مارس 1946 بالرياض علّق على كلمته التي ألقاها في مكة، ودعا فيها للوقوف مع بريطانيا قائلا: «وعلى أثر ذلك تلقّى علماؤنا كتبا من العلماء في بلاد المسلمين، تنتقد موقفي. ففاتحوني بما جاءهم، وأبدوا لي أنهم لا يتعرّضون للمسائل السياسية» (الزركلي). ولمّا جاءه مرةً بعض المشايخ برسالة في الردّ على الشيعة يريدون السماح بنشرها، أخذها منهم، ثمّ في اليوم الآخر «سلّمهم الرسالة، مليئةً بالحذف والإثبات، بخطه وقلمه، وقال لهم: إنّكم أصحاب دينٍ ولستم أصحاب سياسةٍ». والملك عبد العزيز قال للريحاني: «هذا الحسا، عندنا هناك أكثر من ثلاثين ألفا من أهل الشيعة وهم يعيشون آمنين لا يتعرض لهم أحد. إلا أنا نسألهم ألا يكثروا من المظاهرات في احتفالاتهم». ويقول الملك عبد العزيز لحافظ وهبة إنه التقى بعض كبار رجال الدين في عام 1931 لمّا علموا بعزمه على إنشاء محطات لاسلكي في الرياض، وبعض المدن الكبيرة من نجد.. «فقالوا له: يا طويل العمر، لقد غشّك من أشار عليك باستعمال التلغراف وإدخاله في بلادنا، وإن فيليبي سيجرّ علينا المصائب، ونخشى أن يسلّم بلادنا للإنجليز، فقال لهم الملك: لقد أخطأتم فلم يغشنا أحد، ولست - ولله الحمد - بضعيف العقل، أو قصير النظر، لأخدع بخداع المخادعين، وما فيليبي إلا تاجرٌ. وكان وسيطا في هذه الصفقة، وإن بلادنا عزيزةٌ علينا لا نسلمها لأحدٍ إلا بالثمن الذي استلمناها به. إخواني المشايخ، أنتم الآن فوق رأسي. تماسكوا بعضكم ببعضٍ لا تدعوني أهزّ رأسي فيقع بعضكم أو أكثركم، وأنتم تعلمون أن من وقع على الأرض لا يمكن أن يوضع فوق رأسي ثانيةً». (حافظ وهبة، جزيرة العرب في القرن العشرين، القاهرة، دار الآفاق العربية، الطبعة الأولى 2000 ص 283). اعتاد علماء الدين على مخالفة الملك عبد العزيز لهم في جملة من القضايا. يدل على هذا ما قالوه لحافظ وهبة، عندما ناقشهم في اعتراضهم على تعليم الأولاد بسبب: الرسم واللغة الأجنبية والجغرافيا، عن الملك عبد العزيز: «وإن خالفنا فليست هذه أوّل مرةٍ يخالفنا فيها». ويذكر آرمسترونغ المعنى نفسه عن الملك عبد العزيز قائلا: «إن ابن سعود إنما خضع لإرادة العلماء في أمور الدين. لكنهم عندما قدّموا له النصح في أمورٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ لا يرى رأيهم فيها، أمرهم بالرجوع إلى كتبهم». ولإيضاح اختلاف التصوّر حول هذه المسألة بين السعودية والإخوان، وثبات الموقف السعودي وتقلبات الموقف الإخواني، قارن كمثالٍ فحسب بقول حسن البنا في كتابه «مذكرات الدعوة والداعية» ص 137 «ولا ذنب لنا أن تكون السياسة جزءا من الدين». وقارن كذلك بقول يوسف القرضاوي في كتابه «فتاوى معاصرة»، المنصورة، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة 1994 الجزء الثاني ص 624: «الإسلام لا يكون إلا سياسيا»، مع ملاحظة أن حسن البنّا سبق أن قال في حوارٍ معه: «ما لنا بالسياسة علاقة» (محمد التابعي، مجلة «آخر ساعة»، العدد الصادر بتاريخ 5 مارس 1946. بواسطة: يوسف القرضاوي، ابن القرية والكتّاب، القاهرة، دار الشروق، الطبعة الأولى 2002 ج1 ص 255).