فاجأ وزير الخارجية الفلسطيني، رياض المالكي مستمعيه ،حينما أعلن في مقابلة مع إذاعة صوت فلسطين أن المبادرة الفرنسية في الأمم المتحدة لم تعد على جدول الأعمال. ولكن سرعان ما جاء النفي والإنكار ليس فقط من جانب الفرنسيين ،وإنما أيضا من جانب مسؤولين فلسطينيين لهذا الإعلان. وفي محاولة لتلافي الأضرار قال مسؤولون فلسطينيون إن كلام المالكي كان تفسيره الشخصي لمجريات الواقع السياسي في ظل الضغط الأمريكي على فرنسا ، للتراجع عن خطتها أو لتأجيل عرضها أطول مدة ممكنة. ليس صدفة أن كلام المالكي جاء بعد أيام على جولة وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس للمنطقة وتأكيده مساعي بلاده لتحريك عملية التسوية بين إسرائيلوالفلسطينيين. فقد أكد أن الفكرة التي تحثها فرنسا لوضع مشروع قرار على طاولة مجلس الأمن، يستند إلى حل الدولتين واستئناف المفاوضات، لم يعد على رأس أولويات صناع القرار الفرنسيين. وفسر ذلك بضغوط أمريكية ركزت على المفاوضات مع إيران وعدم الرغبة في فتح جبهة ثانية في الشأن الفلسطيني وهو ما أثر، من وجهة نظره، على الفرنسيين. وكشف النقاب عن أن الفرنسيين عرضوا فكرة بديلة تتمثل بعقد مؤتمر دولي يدعم استئناف المفاوضات بين الطرفين. ولكن وزارة الخارجية الفرنسية سارعت للتوضيح بأن كلام المالكي عن تراجع فرنسا عن مشروعها في مجلس الأمن لا يستند إلى أساس. وقال بيان رسمي فرنسي إننا لا ننوي التراجع... وسوف نبحث القرار في مجلس الأمن إذا حظي بإجماع من أجل أن يكون بالوسع تنفيذه. وأشار الناطق بلسان الخارجية الفرنسية إلى أن حكومته تحاول منذ شهور إنشاء أفق سياسي على خلفية الطريق المسدود الذي وصلت إليه العملية السلمية وتدهور الوضع في الأراضي المحتلة ،وأنها تنوي مواصلة فعل ذلك. وأضاف عرضنا عدة أفكار بما فيها دعم دولي يساعد الطرفين على استئناف المفاوضات وتحديد معايير إنهاء النزاع. وخلص إلى أننا توصلنا إلى استنتاج بأن قرارا في مجلس الأمن يمكنه أن يساعد على تحقيق ذلك. ومعروف أن مسودة القرار الفرنسي تتحدث عن جدول زمني من 18 شهرا لإتمام مفاوضات التسوية النهائية بين إسرائيل والفلسطينيين. كما تدعو إلى إنشاء دولة فلسطينية على خطوط 4 يونيو/حزيران 1967 مع تبادل أراض متساوية المساحة بموافقة الطرفين على أن تكون القدس عاصمة للدولتين. وتشدد المسودة على احتياجات إسرائيل الأمنية ووجوب توفير حلول لها وعلى سيادة الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح وتدرج الانسحاب الإسرائيلي. كما تطالب بحل عادل، متوازن وواقعي لمسألة اللاجئين الفلسطينيين. ووضع بيان الخارجية الفرنسي كلام وزير الخارجية الفلسطيني عن المؤتمر الدولي في سياق مختلف حين اعترف بأن فابيوس في زيارتيه لتل أبيب ورام الله قبل ثلاثة أسابيع عرض عدة أفكار لتسريع العملية السلمية وبينها، قرار في مجلس الأمن، وإنشاء إطار دولي بمشاركة إقليمية ودولية يساعد الطرفين على اتخاذ القرارات الضرورية لتحقيق السلام. ومن المؤكد أن كلام المالكي عن تأثر الفرنسيين بالضغوط الأمريكية يستند إلى أساس كبير حتى وإن لم يكن ذلك يصل إلى حد التراجع عن مبادرتهم في مجلس الأمن. فقد كان واضحاً أن الفرنسيين يريدون من مشروع قرارهم تحريك المفاوضات العالقة بين إسرائيل والفلسطينيين. وقد بدأت تحركاتهم في أواخر العام الفائت ،وكانوا يرمون إلى عرض مشروعهم في الشهور الأولى من العام الجاري. ونظرا للموعد النهائي الذي كان مقررا للمفاوضات النووية مع إيران في نهاية يونيو/حزيران الماضي كثر الحديث عن أن فرنسا أجلت عرض مشروعها إلى ما بعد الاتفاق النووي. ومع التمديدات التي جرت على الموعد النهائي للاتفاق النووي، صار الحديث يدور عن تقديم مشروع القرار في سبتمبر/أيلول وربما في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وبديهي أن هذا التأجيل المتكرر من جانب الفرنسيين خيب أمل الدبلوماسية الفلسطينية التي كانت تتطلع إلى تشكيل ضواغط دولية على إسرائيل تسهم في خلق زخم يدفع الدولة العبرية إلى التراجع عن غطرستها وتعنتها. ويعرف الفلسطينيون، ربما أكثر من غيرهم، مدى تأثير الموقف الإسرائيلي في الموقف الأمريكي وأثر ذلك على المواقف الأوروبية عموما والفرنسية خصوصا. وسبق لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أن اعتبر التحرك الفرنسي في الأمم المتحدة إملاء ينبغي مواجهته وتعطيله. كما أن مواقف أمريكية كثيرة أشارت إلى عدم الرضا عن التحرك الفرنسي خشية أن يبدد الاحتكار الأمريكي لرعاية المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين. وكان نتنياهو قد استقبل فابيوس في زيارته الأخيرة بموقف بالغ السلبية من التحركات الفرنسية حينما أكد أن الاقتراحات الدولية لا تتعامل بجدية مع احتياجات إسرائيل الأمنية وأنها، في إشارة للاقتراح الفرنسي، تحاول حشرنا في حدود لا يمكن الدفاع عنها عبر تجاهل تام لما ستكون عليه الحال في الجانب الآخر من الحدود. وللأسف فإننا خبرنا نتائج ذلك أيضا في قطاع غزة ولبنان. وأعلن رفض إسرائيل الشديد لها قائلا: سوف نرفض بشدة محاولات أن يفرضوا علينا إملاءات دولية سواء من أجل الأمن أو من أجل السلام. وربما أن كل هذا وسواه دفع المالكي إلى تحريك الموقف الفرنسي بمحاولة حث تأكيد الموقف الأصلي وإبداء الاستعداد للتمسك به. فالفلسطينيون في رام الله لا يبدون مرتاحين لواقع أن كل عقارب ساعات العالم موجهة نحو المفاوضات النووية بين إيران والقوى الغربية. وهذا يفسر تجنب أي مسؤول فلسطيني الذهاب بعيدا في شرح كلام المالكي ،وقصر الحديث عند حدود اعتباره قراءة خاصة. وشدد مسؤولون في مقر الرئاسة الفلسطينية على أن كلام المالكي لا يستند البتة إلى موقف رسمي فرنسي تم إبلاغه للفلسطينيين. وأضاف هؤلاء أن الفلسطينيين استمعوا إلى أفكار فرنسية جديدة لكنهم لم يفهموا أن فرنسا تتراجع عن نيتها تقديم مشروع قرار في مجلس الأمن ،وأكدوا اعتقادهم أن ذلك قد لا يحصل قبل نهاية العام الجاري. بل إن ممثل فرنسا لدى السلطة الفلسطينية في رام الله سارع لإفهام من استقبلهم من الفلسطينيين بأنه لا تغيير البتة في موقف فرنسا وأن جهودها لاستصدار قرار في مجلس الأمن مستمرة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مسؤولين إسرائيليين سبق وفسروا المماطلة الفرنسية في تقديم مشروع القرار على أنها تخل فعلي عن الجهد المستقل لصالح الموقف الأمريكي. بل ذهب مسؤولون إسرائيليون إلى حد التفاخر بأن المشروع الفرنسي أزيح عن جدول الأعمال بفضل الجهود الدبلوماسية الإسرائيلية. وهذه ليست المرة الأولى التي يبحث فيها ساسة إسرائيليون عن إنجازات في الحلبة الدولية لمواجهة الاتهامات المتزايدة لهم داخل إسرائيلوخارجها بأنهم يزيدون عزلة الدولة العبرية ويعرضونها لحملات مقاطعة دولية متعاظمة. وفي كل حال من الواضح أن الحكومة الإسرائيلية الحالية لا تبدي أي رغبة فعلية في استئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية لأسباب تتعلق بتشكيلتها التي تحوي معارضين جديين لحل الدولتين ولفكرة الدولة الفلسطينية مهما كانت. ومن المؤكد أن هذه الرغبة تكاد تكون معدومة ولو ظاهريا جراء اعتماد الحكومة على ائتلاف ضيق جدا بأغلبية صوت واحد في الحكومة وضمن خلافات حادة على أكثر من صعيد. ومن المنطقي الافتراض أنه بعد توقف المفاوضات كل هذه الفترة يصعب على الطرف الفلسطيني العودة إلى مفاوضات لا تقوم أساسا على مبدأ حدود العام 1967 وهو ما يعتبر مستحيلا وعملا انتحاريا من جانب حكومة نتنياهو. ومع ذلك فإن أوروبا عموما وفرنسا خصوصا، وربما بحث أمريكي مستتر، تحاول كسر جليد الجمود القائم وتحريك العملية السلمية في المنطقة. وواضح أن هناك الكثير من التدابير الأوروبية في هذا السياق، وإن كانت لا تزال بعيدة عن المواجهة الفعلية مع إسرائيل. وفي الأيام الأخيرة تم كشف النقاب عن جهد أوروبي للحوار مع إسرائيل حول الخطوات التي تعرض للخطر حل الدولتين. وقد ردت إسرائيل على طلب أوروبي بهذا الشأن بعدم استعدادها لمناقشة جوانب هذه المسألة وخصوصا البناء في المستوطنات لكنها ترحب بقصر الحوار على تحسين الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهكذا، ورغم أن فرص تمرير مشروع القرار الفرنسي في مجلس الأمن ليست عالية إلا أن التعنت الإسرائيلي والمماطلة الأمريكية سيجبران الفلسطينيين على البحث عن سبل مواجهة مختلفة وسيدفع الأوروبيين للبحث عن وسائل ضغط أخرى. ويكثر الحديث في هذا السياق عن محاولات رسم خطوط حمر يعتبر تجاوزها مبررا لممارسة عقوبات ضد الدولة العبرية. helmi9@gmail.com