مثلما كانت حياته إعصارا صاخبا، ها هو أيضا يرحل فجأة وكأن شيئا لم يكن، لا حياة ولا ضجيج ولا مفارقات ولا زحمة تمتلئ بها التفاصيل. لقد رحل خلو الوفاض إلا من كونه ملأ الحياة بتلك الضحكة المجلجلة الساخرة، التي تحجب خلفها أرتالا من الأحزان غير المعلنة، أحزان على المفارقات الغبية للحياة التي لم تمنحه حقه في السخرية منها دون أن تتعبه وتؤذيه. جمجمته التي عاشت تحت الشمس بكل وضوحها اختزنت خليطا من التفاصيل التي لا تستطيع جمجمة أخرى أن تجمعها، التعب مع الإصرار على أنه راحة، المرارة المختلطة بحلاوة «السكر»، الوجع الذي يرفع صوته عاليا بضحكة مجلجلة ساخرة من كل شيء، الحدة المتناهية والبكاء فجأة كطفل لا يعرف لماذا هشم الأشياء حوله. وفي كل الحالات والأحوال كان عندما يضع رأسه على المخدة يستغرق سريعا في نوم هادئ مطمئن لأنه يعرف جيدا أنه لا يختزن حقدا ولا غلا ولا كراهية. أتذكر جيدا تلك اللحظة التي قابلته فيها للمرة الأولى مع الحبيب علوي الصافي ذات شتاء في الرياض، كانت تسبقه سمعته المخيفة التي كرسها البعض بصورة مغايرة لحقيقته، ليلتها لم يوفر «محمد عبدالواحد» أحدا إلا وقال فيه رأيه، ولا أدري كيف أشعرني أنه يمكن الاطمئنان له كثيرا، ربما لأنه ليس من النوع الذي يهديك قبلة في حضورك ثم يباغتك بلدغة في غيابك، لقد تأكدت من ذلك عندما جمعتنا المناسبات ببعض من تحدث عنهم تلك الليلة، كان هو وكان رأيه هو، لم يتغير. سواء اتفقنا أو اختلفنا مع محمد عبدالواحد، إلا أنه لا يمكن الإنكار بأنه واحد في كل الحالات، إنها فضيلة إنسانية حتى لو تأذى منها البعض. كان بإمكان محمد عبدالواحد أن يكون ثريا ومطمئنا كثيرا لرصيده المادي في الحياة، لكنه قرر أن يهدم كثيرا من الأمور من أعاليها إلى أسافلها ولا يهم ماذا يترتب على ذلك، كان يعرف أن الصراحة متعبة لكنه اختارها والتزم بها، مفضلا حياة الكفاف المادي على الثراء دون متعة الجهر بالرأي والقناعة. فضل أن يشقى ويتكلم على أن يرتاح ويصمت. كان أبو منصور يعيش حياته كحكاية درامية محتدمة التفاصيل، ربما تشبه حكاية زوربا، وربما قد يكون عبدالواحد قد كتب تقريرا إلى جريكو قبل أن يداهمه الموت، ليتنا نفتش في قصاصاته لعل رواية استثنائية تختبئ في سطورها. جاءني خبر رحيلك يا صديقي الكبير وأنا بعيد جدا عن المكان الذي سيواريك. إنها محنة الزمن الذي يحرمنا حتى من تراتيل الوداع على وجوه أحبابنا. لا شيء يجعلني أنتظر مثلك بكل أشيائه، لا شيء يستطيع أن يخفف الحزن المدمر في هذه اللحظة، وكل اللحظات القادمة. والمحزن يا صديقي أنك ترحل بعد عدد قليل من الاستثنائيين في هذه الحياة، فلمن تتركونا؟